
العبيد أحمد مروح
كان سائق “الركشة” حاسماً في رده على تعليق الزميل عمّار عوض، الذي رافقني في مشوار قصير للسلام على الزملاء في مكتب قناتي العربية والشرق في حي الأغاريق بجانب منطقة السوق الكبير .. ومع إن عمّار لم يزد في تعليقة على جملة من كلمتين: “بورتسودان عَبَرَت”، إلاّ أن سائق الركشة لم ينتظر تعليقي، فعاجلنا بعبارة قصيرة كذلك، كانت بالنسبة لكلينا مفاجئة: “أريتها ما عبرت”، أي ليتها لم تَعبُر !!
خلال عام الحرب الذي انقضى، تبدلت أحوال المدينة الساحلية وانقلبت رأساً على عقب، انتقلت إليها “دواوين الحكومة” التي كان يحتضنها مقرن النيلين، وانتقلت إليها غالب أنشطة القطاع الخاص السوداني، ولم تعد مظاهر الوجود الدبلوماسي والأممي تخطئها العين، وامتلأت شوارع وسط المدينة ب “الفِريشة”، فضلاً عن امتلاء وسط السوق بمختلف أنواع السلع والبضائع، بما في ذلك الملابس والأحذية الخفيفة والخضروات والفواكه، سواء التي يعرضها تجار الجملة أو القطاعي، في ال وازدحم الكورنيش، قبالة وسط المدينة والميناء، بمختلف المطاعم والكافيهات، حتى أضحى من المتعذر لمن أراد أن يركن سيارته أن يجد لها مكاناً.
وقد شكلت السيارات المتراصة، ليلاً أو نهاراً، في جميع أنحاء وسط المدينة، سوقاً رائجة للمشتغلين بتنظيف السيارات، وهم يبدون مرونة ظاهرة في الأسعار التي يطلبونها .. ذات مرة ركنتُ سيارة صديقي التي أعارني إياها وقلت لأحد المشتغلين بتنظيف السيارات “لو سمحت، فوطة بدون لساتك”، لم أمهله ليحدد السعر، قلت له: خمسمائة مناسبة ؟ فضحك حتى أضحكني، ثم قال: “خمسمية شنو يا عمك” !!
لم تمتلئ بورتسودان بمنسوبي السلطة المركزية ولا بأهل السياسة ولا بالتجار ومقدمي الخدمات المختلفة، فحسب، بل امتلأت أيضاً بالعابرين، ممن يودون السفر إلى مختلف الوجهات خارج السودان، فهم يأتون لاستخراج الأوراق الرسمية والوثائق الثبوتية والشهادات الدراسية، ولتوثيقها، ولطلب التأشيرات من بعض السفارات، وللحجز عقب ذلك على الرحلات المغادرة جواً وبحراً وبراً، بل امتلأت المدينة ببعض طلاب وطالبات الجامعات الذين اختارت جامعاتهم أن تباشر نشاطها الأكاديمي من عاصمة البحر الأحمر، مؤقتاً.
وقد شكل هذا كله ضغطاً هائلاً على بنية المدينة التحتية، والتي تعاني في الأصل شحاً في المياه والكهرباء، وضيقاً في الطرق، وصاحَب هذا غلاء فاحش في أسعار السكن، حتى أن المرء يضطر ليدفع مقابل إيجار مسكن في أطراف المدينة متواضع الخدمات أو شحيحها، لمدة شهر، ما يكفيه لدفع قيمة الإيجار والإعاشة في شقة كاملة الخدمات في مدينة القاهرة .. وقد حدثني أحد الأصدقاء أن دبلوماسياً أجنبياً بثّ إليه معاناته في العثور على مبنى يصلح أن يكون مقراً لبعثته الدبلوماسية، ولمّا عثر على مبنىً مناسبٍ طلب صاحبه مائة ألف دولار “في الشهر”، على قول عادل إمام !!
نقل الوافدون إلى المدينة، مقيمين أو عابرين، أسلوب حياتهم التي كانوا يمارسونها في الخرطوم قبل اندلاع الحرب، وانتشرت محلات “الجبنة” والشاي في طرقات المدينة وعلى المساطب و “البرندات”، كما انتشرت مع المقاهي والمطاعم محلات الشيشة، وأضحى منظر الشباب والشابات وهم يجلسون في المطاعم والمقاهي، يتعاطون البارد والساخن والشيشة و يتبادولون الأحاديث الهامسة البريئة، شيئاً مألوفاً، ويبدو أن “صديقنا” سائق الركشة كان يختزن كل هذا في “الهارد ديسك” حينما عاجلنا بتعليقه: “أريتها ما عبرت”، وقد اتضح لنا – بعد النقاش الذي أدرناه معه – أنه كان ممتعضاً مما يعتبره عادات دخيلة جلبها “ناس الخرطوم – كرش الفيل” معهم إلى مجتمع محافظ، يرفض بعض أبنائه حتى أن ينطق كلمة “أمي” أو يأتي على سيرة والدته أو أخته، دعك عن سيرة الخطيبة أو الحبيبة !!
غير أن الحقيقة التي لم تعد تخطئها العين، هي أن انتعاشاً ضخماً في اقتصاديات المدينة قد حدث، في جميع القطاعات وخاصة القطاع العقاري وقطاع الخدمات والسياحة، خلال العام الذي انقضى منذ اندلاع الحرب، وأن عدداً مقدراً من رجال المال والأعمال نقلوا جل أنشطتهم إلى بورتسودان بعد أن كانت مجرد معبر لبضائعهم وللمواد الخام الخاصة بمصانعهم.
وقد فوجئتُ أن شخصاً ملء السمع، من أهل الصناعة والتجارة والزراعة، هو الحاج معاوية البرير، لم تطأ قدماه أرض بورتسودان طيلة حياته، إلا في مايو الجاري، وربما يجوز الاستنتاج بأن ذلك قد تمّ بترتيب من مستشاره الإعلامي، الشاب النشط، مصعب محمود، فقد تزامن وجود معاوية البرير في المدينة مع وجود الوفد الإعلامي القادم من مصر، وكان له لقاء مع عدد من الزملاء، كما دعاهم لزيارة أحد مشاريعه لزراعة القمح في الولاية الشمالية وهم في طريق العودة براً إلى أرض الكنانة، وقد لبوا الدعوة.
ولعل الصديق عمّار عوض، كان يقصد هذا حين قال عبارته “بورتسودان عَبَرت”، فالكثير من مظاهر المدينة تغير، وازدادت مساحة العمران وتطاول كثيرون في البنيان، وسارع آخرون من الميسورين لصيانة وتهيئة بيوتهم للإيجار لمن يدفع بالدولار، وتحولت العديد من البنايات العالية إلى شقق مفروشة تصعد إلى طابقها الرابع أو الخامس بدون مِصعد، وأنت راضٍ، لأن صاحبها وفّر المولد الكهربائي بدلاً من المصعد، ووفر الماء غير المالح من مصادر مختلفة بينها خور أربعات أو الآبار الجوفية !!
ومما يبدو للمراقب، فإن السلطة المركزية القائمة في بورتسودان ليست في عجلة من أمر للعودة إلى الخرطوم، فقد اختارت مجمعاً في حي سلالاب ليكون مقراً للحكومة الإتحادية وبدأت الوزارات تنتقل إليه، واشترت عدد من المؤسسات القادرة بنايات بأكملها لتكون مقرات لنشاطها، وجرى استدعاء عدد من الموظفين الاتحاديين للمجئ إلى بورتسودان وممارسة مهامهم من هناك.
نواصل؛
في الحلقة الأخيرة نحاول البحث عن إجابة للسؤال الافتراضي: لماذا أضحت بورتسودان، حتى قبل اندلاع الحرب، في مركز الاهتمام الدولي والإقليمي