أهمية “الكتيبة” الإقتصادية لكسب المعارك الحربية…
د. عبدالرحمن السلمابي
الحروب قديما كانت كما قيل أولها كلام ثم إقتتال ثم إستسلام المنهزم ثم سلام …
والحروب الحديثة إستمدت مفهومها من مجموعة نظريات إقتصاديات الحرب الحديثة من أمثال العالم الأمريكي كيينز و غيره … فوفقها الذي يفوز في الحرب هو من يستطيع استنزاف الموارد الإقتصادية لعدوه أو خصمه مع المحافظة على أكبر قدر من موارده…
و لعل الفكرة هى كلما إستطعت استنزاف موارد الخصم الإقتصادية سوف ينهار و يستسلم … و لعل جزءاً منها هو كيفية المحافظة على الموارد الإقتصادية للدولة لتكون قوية … فمثلاً فكرة عمل مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض الأمريكي مبنية على وجود خبراء أمن و خبراء إقتصاد و خبراء سياسة و دبلوماسية مع الإستفادة القصوي من البيوتات الإستشارية المتخصصة لرفده بالجديد من الأفكار … بمعني إيجاد مجموعة خبراء لديهم قرائن إستشعار (أمنية) مع بوصلة فكرية لتحديد المآلات المتوقعة من الأحداث و إيجاد مجموعة من سيناريوهات الخطط البديلة الأقل تكلفة.
وقد نجحت منظومة الأمن القومي الأمريكي – على سبيل المثال – في توفير الكثير من الموارد المهدرة في موضوع الإستمرار في التسابق في التسليح النووي و محاولة مجاراة الإتحاد السوفيتي فيها … فتوصلوا إلى تفاهمات ومعاهدات بهذا الخصوص بأعتبار أن ما يملكانه الآن من سلاح فتاك بما فيه الكفاية و لا يمكن تجاوزه و الأصل هو دفاعي أو وقائي يعبر عن إظهار القوة …
و قد نلاحظ سير الحرب ذات المضامين الإقتصادية على ما هو قائم الآن مابين روسيا و أوكرانيا حيث يعمل الروس على المحافظة على “سلاح” إقتصادهم من الإستنزاف و العمل على إستنزاف المقدرات الإقتصادية للخصم و حلفائهم و متى ما حدث كامل الإنهيار الإقتصادي سوف يأتي رئيس في كييف حليفاً لهم … و هذا هو المتبقي من خطتهم بعد نجاحهم في ضم الأجزاء الشرقية و شبه جزيرة القرم .
للأسف الشديد نجد أن منظومة الأمن القومي المتكاملة لدينا تكاد تكون معدومة من قراءة كامل المشهد السياسي منذ قيام الثورة في 2019 …حيث الواضح أن كل ما يحدث في السودان هو خراب إقتصادي ممنهج بقصد إضعاف مقدراتنا الحربية و الدفاعية و إستهداف واضح للجيش السوداني وفق خلط مفاهيمي مقصود بأنه ليس جيشاً وطنياً و إنما مليشيا حزبية (كيزانية) و للعجب و بنفس هذا المفهوم فإن مليشيا الدعم السريع نفسها يطلق عليها كذلك !!
إذا نظرنا إلى الملف الإقتصادي الذي يُعتبر من الملفات المهمة منذ تاريخ الثورة 2019 نجده ممنهجاً للتخريب الإقتصادي بقصد إضعاف قدرة الدولة و جيشها القومي … و الشاهد على ذلك تجاوز جماعة حمدوك و البدوي “ناس حنعبر نفاقا” و رفضهم حتى لتنفيذ توصيات المؤتمر الإقتصادي للحاضنة السياسية (قحت) نفسها ذات الأهداف القومية و التى بحق كانت وطنية .. و الحال الإقتصادي للسودان مستمر في التدهور من درك إلى درك أسفل..
و لعل إستمرار أمد الحرب القائمة الآن هي بلا شك معارك إقتصادية مفتوحة و مكشوفة لكل الخبراء الإقتصاديين الوطنيين ،،، و لكنها قد لا تكون بنفس الإدراك على من هم في قيادة الأمر … فمثلاً عند بداية حرب التمرد و وفق مجرياتها إتضح جليا بأنها حرب إقتصادية ممنهجة لإفقار الشعب السوداني و الجيش السوداني و الدولة السودانية، بحيث لو كان تمرداً أو حرباً ضد السلطة العسكرية لانحصرت في المقار العسكرية و ثكناتها المختلفة.
و غالباً ما تكون هنالك أيادٍ خارجية تدعم الدعم السريع و قواته المتمردة حيث خططوا و عملوا على تمويلها و استمرارها ودفع أجور و تموين معيشة مرتزقتها من عمليات نهب البنوك و الموارد المالية المتاحة لدي المواطن و الشركات العامة و الخاصة، و حولوا منازل المواطنين و معظم الأماكن العامة إلى مقار عسكرية.
و لعل الفكرة تنبع من تقليل صرفهم العسكري عبر إستخدام كل الموارد الإقتصادية المتاحة التى يحوزون عليها و حتى إستخدام سيارات و أموال المواطنين المنهوبة لمحاربة الجيش الوطني و المواطنين أنفسهم.. و خطة الخراب الإقتصادي تسعى أيضاً إلى تجفيف مصادر الإيرادات القومية قاطبة حتى لا يستخدمها الجيش لتقوية منظومته الحربية و إستخدامها ضدهم لكسب الحرب و كسر شوكتهم، والخطة مستمرة عبر استمرار إطالة أمد الحرب و إستنزاف المزيد من الموارد الاقتصادية و تعطيل دورة الإنتاج ،، مثل ما يحدث الآن في حرب ولاية الجزيرة و تخريب مشروعها و إستهداف مصانع السكر في سنار و إفقار و تهجير سكانها المنتجين.
للحق لقد نصح كل الخبراء الإقتصاديين الوطنيين أمثال بروفسير عثمان البدري و بروف أونور و بروف بشير و د. التيجاني الطيب، وغيرهم، عند بداية سير الحرب منذ مايو الماضي بأن الأوفق للسلطة القائمة أن تعمل فوراً على تغيير العملة و استبدالها بضوابط محكمة حتى لا تكون المنهوبة منها صالحة لإستخدامها و إستغلالها و إعادة تداولها لصالح القوات المتمردة .. و الذي يحدث الآن هو إستخدام نفس موارد وأموال الدولة المنهوبة و الإستمرار في شراء الدولار و العملات الأجنبية بأي مبلغ حتى وصل الدولار 1400 جنيهاً، لتمويل شراء الأسلحة و إستمرار الحرب الإستنزافية.
أيها القادة العسكريون، لابد من وجود قادة عظماء أيضاً لكتيبة (أو لواء) إقتصاديين وطنيين أمثال من ورد ذكرهم بهدف إيقاف هذا الإستنزاف الممنهج لموارد الدولة المالية و تجفيفها و منع إستغلالها لصالح القوات المتمردة، وإحكام الضبط و الرقابة على التحاويل الخارجية و منع شراء العملات الأجنبية من السوق الحر و تمتين أحكام الرقابة على كافة البنوك و التحاويل البنكية الداخلية و تقليل السيولة المالية …
و على القادة العسكريين القضاء الفوري على “الطابور الخامس” داخل دواوين الدولة الذين يسهلون كل ذلك و الإستعادة الفورية لمنظومة الأمن الإقتصادي …
و طالما هنالك دولارات يمكن تحويلها بسهولة للخارج فسماسرة السلاح على إستعداد لتصدير أى نوع من السلاح للسودان و الآن ظهر إمتلاكهم و إستخدامهم للمسيرات الذكية الزهيدة الثمن …
لقد أثير كثيراً من قبل موضوع “إعادة” طباعة نفس ورقة الألف جنية بتغيير الإمضاء فقط ،، و كانت الآراء للخبراء الإقتصاديين أن الجدوى قد تكون أفضل بالتغيير غير المكلف لأحبار لونها “مثل لون بني” و إستبدال و إلغاء الورقة الحالية الزرقاء اللون فورياً (أو تدريجياً) ، و لكن لم يحدث ذلك و بالتالي ضخت المزيد من الأموال مما تسبب في ارتفاع أسعار العملات الأجنبية بحوالى ثلاثة أضعاف عما كانت عليه.
لقد وردت في بعض الكتابات الإسفرية أيضا مسألة إقتصادية مهمة جداً وهي ضرورة تشييد و قيام، قبل قدوم الخريف، الطريق الرابط بين الدندر و طريق القضارف بمسافة حوالى 70 كيلو تقريبا لأهميته في عدم خنق الإمدادات الحيوية و الإقتصادية لولايتي سنار و النيل الأزرق و بعض من الأطراف الحدودية لولاية الجزيرة و المنتجات للعديد (مما تبقى) من المحاصيل الزراعية و النقدية و الثروة الحيوانية و غيرها، والموضوع قد يكون قليل التكلفة مقارنة بفوائدة الإقتصادية الكبيرة و المستدامة… و يمكن تنفيذه بواسطة أو عبر سلاح المهندسين ،،، كما فعل الرئيس الأمريكي إيزنهاور إبان الحرب العالمية حيث وظف كل الموارد الاقتصادية المتاحة و أمر كل الشركات العاملة بالعمل تحت إمرة القوات المسلحة … وفق ذلك يمكن تكثيف العمل على أن يكتمل الطريق في غضون شهر تقريبا …
الخلاصة أن هذه الحرب القتالية الماثلة ليست ضد الجيش السوداني لوحده و إنما ضد كل الشعب السوداني كله، ويستحسن الإستفادة من كل العقل و الذكاء الجمعي و خصوصاً في المجال الإقتصادى و غيره …
عموما علماء و خبراء الإقتصاد لديهم معايير إقتصادية لقياس المخرجات متمثله في مفهومي الفاعلية و الفعالية (Effectiveness & Efficiency) … و الفكرة إذا تم تطبيقها على مجريات الحرب الماثلة تكون كالآتي: معيار الفعالية (Effectiveness)و هو حتمية الوصل للهدف ،،، أى القضاء على التمرد و دحره و هنا مما لا شك فيه سوف تنتصر القوات المسلحة السودانية على المتمردين …
أما معيار الفعالية (Efficiency) فيقيس الوصول للهدف بأقل تكلفة إقتصادية من حيث الوقت أو الزمن وسرعة انجازة ،،، و كذلك قلة المجهود المبذول للموارد البشرية ،،، ثم و تقليل إستنزاف المزيد من الموارد المالية الشحيحة المتاحة … و أظن الموضوع واضح قد لايحتاج إلى شرح أكثر.
إذاً من الحصافة الإستعانة بكل الموارد البشرية الوطنية و الذكاء و العقل الجمعي في المجالات القتالية الأخري مثل الإقتصاد و السياسة و الأمن و الإعلام و غيرها للإسهام في سرعة دحر التمرد و كما يقول المثل “يد على يد تجدع بعيد” أو “اليد الواحدة ما بتصفق”….
و أشهد اللهم إننا قد بلغنا ،،، و نتمني أن تصل للقادة كل هذه الرسائل و التفاعل الإيجابي معها …و الله المعين و المستعان.