رأي

إدارة ترامب والفرص المتاحة

دكتور حسن عيسى الطالب

يرتقب المحللون السياسيون والخبراء الإستراتيجيون في كافة أرجاء العالم بقلق حاذر التغيرات المتوقعة في الدبلوماسية الدولية، التي أفرزتها نتائج انتخاب الرئيس دونالد ترامب للمرة الثانية، بعد فشله في انتخابات ولايته الثانية عام 2020م التي أتت بالرئيس جو بايدن ولم يعترف بها ترامب بل وصمها بالتزوير الخطير.

بيد أن ما يهم الدول الخارجية، وبالأخص في العالم العربي وفي السودان، هو تداعيات فوز ترامب -2 المتوقعة وموجهات سياسته الخارجية ووقعها على بلدانهم وشعوبهم.

فمن تلقاء الأوضاع في فلسطين، تأكدت توعدات ترامب الإنتخابية، وممارسته الضغط القاهر على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، بما أفضى لإذعانه مكرها على توقيع إتفاق السلام، ووقف إطلاق، النار وتحرير الأسرى في أيدي حماس، وإطلاق سراح المسجونين والمختطفين من الفلسطينيين، وغالبهم ممن لم توجه لهم أية اتهامات، وقضوا في السجن عدة سنوات بلا محاكمات، حتى توقيع الإتفاق في 19 يناير 2025م، وقبل يوم واحد من أداء ترامب القسم الرئاسي، وفق ما توعد وحذر وأنذر.

يتعين لفهم سياسة ترمب -2 فهم الشخصية الرئاسية الأمريكية الملهمة التي يعتبرها المثال الأعلى، ويستوحي منها رؤاه في السياسة الخارجية والدبلوماسية الدولية. ذلكم هو الرئيس الجمهوري وليام ماكنلي، الذي انتخب رئيسا عام 1897م واستمر في الحكم حتى عشية اغتياله عام 1901م على يد أحد المعارضين المتطرفين الفوضويين.

بيد أن أهم ما جذب ترامب في مثاله الرئاسي الملهم لسياساته المستقبلية، هو القرارات الحاسمة والناشزة على الجوار الأمريكي المباشر، والتي اتسمت بالتوسع الاستعماري وعبر القوة الغاشمة، وتمخض عنها ضم كل المناطق التي تقع في محيط الأمن القومي لأمريكا، مثل الانقلاب على حكومة جمهورية هاواي المستقلة عام 1898م، والتي تحولت إلى ولاية أمريكية عام 1959م. ومن ذلك مستعمرات بورتريكو، وجزيرة قوام، والفلبين، وكانت جميعها تحت سيطرة إسبانيا على مدى المئين من السنين، فضمتها أمريكا بالقوة العسكرية القهرية.

كذلك اتسم حكم الرئيس ماكنلي بتقوية الدولار الأمريكي، فتبنى معايرة العملة الذهبية، وفرض الجمارك على كل السلع الواردة.
فاستلهم ترمب من مثاله السالف نواياه المعلنة بالعزم على ضم كندا لتكون الولاية رقم 51، وكذلك مساعيه لضم جزيرة قرينلاند التابعة للدنمارك، واحتلال قناة بنما، وتغيير مسمى خليج المكسيك ليصبح “خليج أمريكا”.

وفيما يتعلق بفرض الجمارك على السلع الواردة، لم يستثن ترمب من العزم على فرضها حتى حلفاءه من الجيران الأقربين، مثل كندا والمكسيك، ولا حلفاءه في الناتو من دول الإتحاد الأوربي؛ ناهيك عن وقعها الماثل على دول أخرى لا تجاور أمريكا مثل الصين وغيرها من البعداء المهابين والمنافسين المتوعدين.

بيد أن ثوابت التاريخ تؤكد أن الرئيس المثال ماكنلي نفسه كان مبتدعا تنكب سبيل سياسة نهج أسلافه المؤسسين، كالرئيس الأول جورج واشنطن، الذي انتخب لرئاسة أمريكا خلال الفترة 1789 – 1796م فأعلن مبادئ النأي عن المحاور والتحالفات الخارجية: “أن على أمريكا عدم الدخول في أية تحالفات دائمة مع أي جزء في العالم”؛ فأقر مبدأ العزلة والإنكفاء على الداخل. فسار على أثره آباء الدستور الأمريكي المشاهير، ومنهم جون كوينسي آدامز، الذي انتخب رئيسا عام 1825م وكان شعار سياسته الخارجية يؤكد “أن على أمريكا ألا تخرج من حدودها بحثا عن غول لتدمره”.

غير أن هذه السياسة المستندة على العزلة المجيدة والقناعة بمكتسبات وإرث القادة المؤسسين لم تصمد طويلا أمام رغبات وطموحات الأحفاد الطامعين. فقام الرئيس جيمس بولك، وهو من الديمقراطيين، بإعلان الحرب على دولة المكسيك المجاورة، بعد رفضها طلب بيع ولاية تكساس، فتم غزو العاصمة نيومكسيكو، واعتقال الرئيس أنتونيو لوبيز دي سانتانا، الذي أرغم على توقيع إتفاقية التنازل عن كل أراضي ولايات كاليفورنيا ويوتاه وأريزونا مقابل مبلغ 15 مليون دولار، دفعت للمكسيك كتعويض عن الخسائر التي لحقت بها.

هذه هي الأمثلة المثبتة في ذاكرة الرئيس ترمب وهواجسه التي ظل يجترها مذ انطلاق حملاته الإنتخابية لتخرج اليوم بتهديداته المعلنة.

ما يتعين تأكيده هو أن الرجل لا يتحدث من فراغ ولا هوى، وإنما من تلقاء ثوابت مبدئية وقطعية لديه، وسنة سابقة لمن يعتبره وفق تصنيفه الذاتي بأنه الرئيس الأعظم في التاريخ الأمريكي على الإطلاق، وكرمز للإقتصاد الرأسمالي، والقوة الأمريكية العظمى، التي يتشوق إلى استنتاجها وتقمصها. ومن تلقاء ذلك يتعين فهم شعار: ‘اجعلوا أمريكا عظيمة تارة أخرى
Make America Great Again
من ناحية أخرى، أعلن ترمب للملأ حوله إثر تنصيبه مباشرة، أن أولى زياراته الخارجية ستكون للسعودية. ولا يخفى على المطلعين على ملفات الدبلوماسية الثنائية العلاقة القوية والثقة المتناهية التي يحظى بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لدى ترمب، ومن ذلك احتفائه به إبان ولايته الأولى، وعقد صفقات اقتصادية وتجارية كبرى بين البلدين.

وتسنح أمام السعودية فرصة عظمى لتثبيت مكانتها المحورية في العالمين العربي والإسلامي لإقناع ترمب بدعم وتبني حل الدولتين، وإنهاء النزاع المتطاول والاحتلال غير الشرعي لأراضي فلسطين، وفق مبادرة قمة بيروت عام 2002م التي تبنتها السعودية، وحظيت بموافقة كل الدول العربية، ومعظم دول العالم، وباعتبارها الحل الأمثل والأعقل، والواقعي المتاح. ولسوف يجد ذلك المقترح هوى في نفس ترمب لإنفاذ وعوده الانتخابية التي أكدها مجددا في خطاب تنصيبه يوم 20 يناير 2025م مبشرا بإنهاء كل الحروب، وتواصل مساعيه الرامية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي ومن ورائهم كافة الدول الإسلامية.

أما فيما يتعلق بالسودان فالتوقعات تشير إلى إمكانية رفع العقوبات الشخصية التي أصدرها الرئيس بايدن على القائد العام للجيش الوطني، الفريق أول البرهان، قبل 48 ساعة فقط من انتهاء ولايته، والتي ينظر إليها بمثابة تصرف وسلوك مزاجي غاضب، أكثر منه كسياسة لدولة تسعى لإنفاذ مبادئ راسخة. بل يعتبر القرار التنفيذي حجابا للتغطية على فشل إدارة بايدن وعجز مبعوثه الشخصي توم بيريللو عن تحقيق أية نجاحات تذكر. وذلك الفشل المستطال لإدارة بايدن لم يقف في السودان وحده، ولكن أيضا شمل ليبيا وتونس واليمن وإيران وفلسطين.

وعليه يتعين على السيد وزير الخارجية السودانية، د. علي يوسف، التواصل مع إدارة ترمب عبر وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي أدلى بتصريحات إيجابية تجاه السودان، ومنها الإقرار بجرائم الإبادة المنسوبة للميليشيا المتمردة والتي صدرت من الخارجيةالأمريكية.
فضلا عن ذلك، فإن سياسة ترمب الاقتصادية تتجه لتوسيع الاستثمارات في مجالات الطاقة والنفط والغاز والمعادن، وهي القطاعات التي يحظى السودان فيها بالأولوية والأسبقية، وتجئ أهميتها برفع الرئيس ترمب العقوبات منذ ولايته الأولى في عام 2020م.

لا يحتاج الأمر للتأكيد بأنه يتعين على الحكومة القائمة تسريع تدابير وإجراءات بسط الأمن الشامل في كل ربوع البلاد، وتعزيزه عبر تشكيل حكومات في كل الولايات السودانية وبمجالس تشريعية، عبر التوافق الجمعي لمكوناتها، وتشكيل وحدات الإستنفار، والأمن الإجتماعي والدفاعي الشامل على مستوى كل ولاية، وفتح مجالات الاستثمار، وتخفيض الضرائب والرسوم، بما يدعم تحقيق الفرص المتاحة، وشيوع السلم المستدام،
وتأكيد السيادة الوطنية وسلطة الشعب المستندة على الإرادة الجمعية وحكم القانون ريثما يتم الترتيب للإنتخابات العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى