رأي

الاستقلال والإدارة الفيدرالية الديمقراطية

د. حسن عيسى الطالب

ظل الأول من يناير من كل عام، ومنذ 69 عاما مضت، يمثل اليوم الوطني لأهل السودان، وباعتباره احتفالية صورية لرفع العلم السوداني، مكان العلمين الإنجليزي والمصري عام 1956م.

بيد أن ما يفترض الإحتفاء به حقا هو قرار الإستقلال الذي صدر بإجماع ممثلي الشعب السوداني، المنتخبين ديمقراطيا الذي أصدره برلمانهم الانتقالي في 19 ديسمبر 1955م.

فالواقع أن ذكرى الإستقلال الصورية الحالية تتلاشى مغمورة حسيرة، في غياهب الاحتفالات العولمية المتوهجة، التي تتناقلها الفضائيات (لايف) في رأس السنة، من لدن طوكيو ولندن واستكهولم وبرازيليا. فيضحى يوم الاستقلال المراسمي في بلادنا مجرد خبر من الماضي، يومض على صفحات الحروف المتوهجات في أسفل تلكم الشاشات.

ومن تلقاء ذلك المشهد المكرور، فلربما يتعين على أهل السودان بدء عامهم الجديد 2025م بتصحيح ذلك الإحتفال المراسمي، وإعادة النظر بتحديد يوم الإستقلال ليوافق ما قرره آباؤهم تحت قبة البرلمان وبالإجماع التوافقي.

وتأسيسا على ذلك، فسيحتاج السودان المتحرر الجديد، المنعتق بإجماع وجسارة شعبه، واستعلائهم على المؤامرات المدلهمة، وأجندة 15 ابريل 2023م وما سبقها من تدابير الخداع والتدمير الذاتي Auto-destruction للدولة، إنفاذا لأجندة الخارجين الممولين لمخططات الفوضى الخلاقة Creative Chaos والاستعمار الجديد، وعبر الدعاوى الملتبسة، والناعقة زورا وبهتانا بالديمقراطية والحرية والدولة المدنية. ويحدث ذلك بعد 69 عاما على الإستقلال الرمزي من الغزو العسكري المسلح السابق، والذي هدف وسعى لتغيير الدولة الوطنية بالقوة الغاشمة والمرتزقة المجلوبين من أطراف الأرض، الذين احتشدوا ضد شعبه في ثرى كرري يوم 2 سبتمبر 1898م، ثم تلى ذلك اغتيال وتصفية كل أعضاء المنظومة القيادية الحاكمة وبدم بارد في نوفمير 1899م بأم دبيكرات، من قادة الغزو الغاشم، لتبدأ مرحلة مظلمة في إدارة الدولة وحكم الجنرال الغازي المنتصر، فابتدرت حقبتها المشئومة بتزوير الدستور، وتبديل القيم الموروثة، وفرض الأحكام التعسفية، وتزوير الإرادة الوطنية، والهوية السودانية، وفرض قوانين الأجانب المجلوبة من وراء البحار بقوة السلاح، دون رأى من مواطن، ولا مشورة ولا استفتاء. فتمت بذلك مؤامرة إلغاء الإرث التشريعي والقانوني والإداري للدولة الوطنية الذي ظل راسخا ومنارة ومصدر اعتزاز للشعوب العربية والأفريقية والإسلامية على مدى أربعة قرون، من لدن نشؤ السلطنة الزرقاء عام 1502م، كدولة شامخة، ومنارة سامقة للحضارة والعلم والهوية الوطنية في سنار.

يحتاج السودان اليوم ليؤسس لدولة فيدرالية ديمقراطية متحدة معاصرة، تتقوى بحرية الرأي، وبوح الانتماء والتنظيم السياسي لمواطنيه، وإدارة الإختلاف والتنوع، وعبر إتاحة حريات تشكيل المنظومات والأحزاب، التي تتنافس لإدارة البلاد ببرامجها وكفاءاتها وكسوبها ومقبوليتها من المواطنين، وتعمل فق القانون لإقامة دولة الإدارة الرشيدة وحكم القانون، وتثبت أحقية كل مرشح وراغب في السلطة المشروعة، عبر الانتخابات الشاملة الحرة والنزيهة والشفافة.

تلكم هي الدولة المعاصرة الواثقة المرغوبة، التي تكفل المساواة لكل مواطنينها في الحقوق والواجبات، وتعلي من الأصول الماسكة، والمثل الراسخة، والقيم العليا، التي أرساها الأسلاف الراشدون عبر القرون، فتشكلت هوية السودان القومية، التي يتعين أن تصبغ هوية دولته الديمقراطية المرتقبة، والتي لا بد أن تتوافق مع قيمها وتتصالح مع موروثاتها. فهي ليست مجرد ادعاءات وطلاسم مستوردة، تتماهى مع الخارج بالمحاكاة والتقليد الناعق، واستخذاء المخزي، دونما تفهم ولا استدراك..

إذ كل ما يخالف العرف المستقر والثوابت المؤسسة يعتبر ضربا من المجازفات الدونكشوتية، التي غالبا ما تتسبب في انهيار النظم الحاكمة، وتفضي لفشل الدولة، وتكريس التشرذم الطائفي، والإستعلاء الأيدولوجي، ويذكي الإحتراب بين أبناء الوطن الواحد.

ذلكم هو المخطط التدميري المنهجي الذي عانى منه السودان طوال العقود الخمسة التالية للإستقلال، من لدن التمرد الجنوبي عام 1955 وحتى إبرام اتفاقية نيفاشا عام 2005م.

غني عن القول أن مرحلة ما بعد 15 أبريل 2023م لن تتلوها أيدولوجيا نخبوية وصفوية تسعى للتفريق بين أبناء الوطن الواحد، وتصدر القرارات التعسفية واللاقانونية لعزل المختلفين معها فكريا، وتعامل من لا يشاركها الأيدلوجيا كأعداء وفلول مارقين.

هذا السلوك الإقصائي في إدارة الدولة يكرس نمطا من أنماط الدكتاتورية الفكرية البئيسة التي أفشلت وأقعدت كل الدول التي تبنتها، والأمثلة تجل عن الحصر عربيا وإسلاميا وأفريقيا.

لا يشك أحد أن هكذا منهج لن يشكل دولة ديمقراطية، ولا وحدة وطنية، ولا يؤسس لمجتمع مدني متصالح، لا في السودان ولا في غيره.

بيد أن الفيدرالية الديمقراطية الدستورية تتيح تشكيل برلمان إتحادي منتخب من الشعب، وبرلمان لكل ولاية، لتقرر تشريعاتها وقوانينها وينتخب شعبها حكوماتها عبر منظوماتها السياسية المحلية. ففي كل حكومة ديمقراطية توجد معارضة معترف بها، منصوص عليها في القانون، ولها زعيم تحدد مخصصاته وامتيازاته؛ وللمعارضة مقاعد محددة المواقع في البرلمان الذي تنص لوائحه على كيفية ادارة الحوار، وهناك لوائح اجرائية تبين كيفية إصدار التشريعات بعد المداولات الثرة على مشروعات القوانين، وأخذ رأي مؤيديها ومعارضيها في الاعتبار، وحسم الأمر في نهاية المطاف بالتصويت الغالب.

فالحكومة والمعارضة في الدول الراشدة لا يختلفان حول الاستراتيجية الوطنية، ومبدأ تحقيق المصلحة العليا للوطن، ولا في الخطط والبرامج القومية الشاملة التي لا تتعارض مع الدستور.

فالمشروعية لأي نظام حاكم تستمد من رضى وتأييد غالبية مواطنيه. وهذا هو الواقع الذي تستند عليه الحكومة الحالية منذ أبريل٢٠٢٣م. بيد أن تعزيز المشروعية الدستورية المستدامة يتأتى عبر إجراء الانتخابات النزيهة والشفافة، التي لا تستثني إلا من أبى اختيارا وطوعا.

فالمنظومات الإقليمية كالإتحاد الأفريقي، والدولية كالأمم المتحدة ووكالاتها، لم تعد تتعامل بمصداقية مع أية حكومة لا تأتي عبر صناديق الانتخابات، فلا يعترف بها كحكومة شرعية. إذ بنظر هذه المنظومات، ووفق مبادئ الحوكمة والحكم الراشد، أن تأييد الشعب للنظام الذي يحكمه يثبت ويتأكد عبر الانتخابات.

فمن تلقاء ذلكم وللمصلحة العليا للبلاد، ولتعزيز الوحدة الوطنية للسودان، يتعين بعد إنها الحرب وإعادة الإعمار، السعي لإقامة الدولة الديمقراطية الفيدرالية الإتحادية، وتعزيز سيادة الشعب، وحكم القانون، وإقامة ميزان العدل. ويمكن مراجعة الدستور الحالي الذي أقر بعد 2005م بموجب إتفاقيات السلام الشامل، والذي اعتبر وقتها متقدما على كل الدساتير في المنطقة وعلى المستوى الدولي، أذ أقر بحق تقرير المصير، واقتسام السلطة والثروة، وتحقيق المساواة والعدالة الشاملة، دون تمييز للون سياسي ولا لتوجه العقائدي ولا لإتجاه فكري. فيمكن إجراء تعديلات لتضاف إليه بدلا من إضاعة الوقت والجهد والمال في جدال لا ينتهي، والعبرة بالدستور الأمريكي منذ 1878م والذي أجريت عليه تعديلات تفوق الثلاثين مع الاحتفاظ بالمبادئ الحاكمة والأصول الثابتة.

ونظرا للتدمير المنهجي وانقطاع تسلسل الخبرات، وتوقف التدريب الضروري على رأس العمل، ومنذ 2019م وما تلاه من تدمير منهجي بعد أبريل 2023م، فيتعين إتخاذ تدابير إدارية طارئة وضرورية على مستوى الدولة، لتعزيز عمل دواوينها، وضمان فعاليتها، لتعويض الفاقد البشري في الخدمة المدنية، وتعويض الإمكانات الخبراتية والتراكمية، عبر إتاحة الفرصة للخبرات الوطنية في الخدمة المدنية والأمنية والعسكرية من المشهود لهم بالكفاءة والشرف والخدمة الطويلة المميزة، بعد سني التقاعد، إذا لزم الأمر، لسد النقص الماثل، والذي لا يمكن تعويضه وفق الظروف الماثلة، وبقوانين الخدمة المدنية وإجراءاتها السارية.

إضافة لذلك، فالمطلوب بإلحاح خلال الفترة القادمة، تعزيز الحقوق والواجبات المستحقة دستوريا وعرفيا لكل مواطن، والسعي الحثيث لإقامة دولة القانون، وبسط العدالة، وإثراء وإشباع الحقوق الإنسانية الأساسية، والمشاركة الكلية في الحكم للجميع، دون استثناء إلا بحكم القانون الذي تصدره المحاكم المشروعة.

التطورات الإدارية التي أفرزها واقع التغيير السياسي الماثل، تستدعي الاعتبار بالتجارب الإدارية الناجحة في شكل الدولة، والمطبقة في دول ذات ظروف مماثلة للسودان، أو ذات ثقافات وإثنيات متنوعة، كنيجيريا، والهند، وسويسرا، وبلجيكا، وكذلك التجربة الأمريكية، التي تعد الأفضل في إدارة التنوع، وإدارة الدولة، وتعزيز مبدأ فصل السلطات، وتيسير التبادل السلمي للسلطة، واحترام حكم القانون، وتكريس سيادة الشعب والاستقلال السياسي للدولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى