التأسيس الفلسفي لمنطق المستويات – المتعددة

وائل الكردي
أوضح رايشنباخ Reichenbach في بحثه لفيزياء الكونيات الصغرى Microcosm أننا مع هذه الكونيات الصغرى، تماماً كما في الكونيات الكبرى Macrocosm نستطيع أن نتصور عوالم يكون من المستحيل فيها فيزيائياً التحقق أو التكذيب لقضايا تجريبية معينة. فعلى سبيل المثال، أننا يمكنا القول بالتحقق من عداد السرعة في سيارة عند بلوغها درجة قصوى في السرعة أنه من المستحيل التحقق أو التكذيب لوصفنا حالة هذه السيارة أو متعلقاتها في تلك اللحظة من خلال الملاحظة التجريبية المجردة، أي أن العبارة أو القضية الوصفية في هذه الحالة لا مفر من اعتبارها ذات قيمة توسطية أو محايدة بين الصدق القاطع أو الكذب القاطع؛ وذلك لأن في خبرة الكونيات الكبرى أي قضية نعتبرها مكتملة المعنى تجريبياً فإنها تبدو على الأقل محتملة الصدق أو الكذب..
وقديماً قال الفيلسوف بليز باسكال Pascal بحيرة الإدراك الإنساني بين اللانهايتين العظمتين الكون المتسع الأكبر والكون المتناهي الصغر. وفضلاً عن ذلك، فإن رايشنباخ يرى أن تطبيق منطق القيم الثلاثية هذا، بافتراض القيمة التوسطية بين قيمتي الصدق والكذب، يسمح للشخص بأن يحتفظ بكل قوانين الميكانيكا الكمومية ومبدأ عدم انتقال الإشارة السببية في العجلة اللامتناهية.
وخلاصة القول أن التصورات وفق منظور الفيزياء الحديثة تتغير بصدد الحكم الكلي المبني على الرؤية الشمولية الحديثة للعلم والتي تتكامل فيها مقررات ميكانيكا الكم مع كثير من قواعد الفيزياء الكلاسيكية، فمن هنا قد يثبت منطق القيم المتعددة حيازته لنفس التبرير النهائي في حقبة ما من حقب العلم التي أقام فيها منطق القيم الثنائية المعياري تبريره لصدق الحجج من خلال الأدبيات العلمية الكلاسيكية. ولكن التسليم بهذه الإمكانية يكون بإقامة منطق القيم المتعددة كبديل لمنطق القيم الثنائية.
أما فيما يتعلق بإدارة العلم فقد نقترح هنا تجاوزاً آخر لمنطق القيم المتعددة بعدما تم من قبل تجاوز القيم الثنائية، وذلك وفق ما يمكن الاصطلاح عليه بمنطق المستويات-المتعددة
.many-levels logic
فإن منطق المستويات المتعددة هو نسق مقترح يقوم على ما يلي:
أولاً- توسيع مجال العلاقات المنطقية، أي الثوابت، وفق افتراض مستويات دلالية ممتعددة على ما يتم تحديده وتصنيفه دلالياًً من مضامين المتغيرات التي تربط بينها العلاقات أو الثوابت المنطقية، فالعبرة إذاَ ليست بتغيير قيم الحكم في القضايا وإنما بتصنيف الدلالات في هذه القضايا على مستويات تمثل مجالات مختلفة في استدعاء الحكم بقيم الصدق والكذب؛ إذ كان من أسباب القصور في نمط منطق القيم الثنائية التقليدي ومنطق القيم المتعددة كلاهما إنهما قاما على حصر الحكم المنطقي في مستوى دلالي واحد لكافة القضايا المنطقية. وأيضاً يكون لكل مستوى دلالي الدوال المنطقية الخاصة به.
ثانياً- الإبقاء والتأكيد على قاعدة الحكم على قيم الصدق والكذب كقيم وحيدة للحكم المنطقي على أن يتم توزيع قوائم احتمالات دالات الصدق في الأحكام بحسب كل مستويَ دلالي من مستويات القضايا المنطقية، وذلك انطلاقاً من نص الآية القرآنية “فماذا بعد الحق إلا الضلال” (يونس، 3 2) والتي يمكن أن تتضمن مسوغاً كافياً لمنح الفعالية المنطقية القصوى لمنطق دالات الصدق الثنائي القيم دون منطق القيم المتعددة؛ أي أن منطق المستويات المتعددة هو تطوير لمنطق القيم الثنائية بما يلائم الاتجاه نحو الشمول المعرفي العلمي التام بالوجود، فالحق والضلاال تمثلان الصدق والكذب المنطقيين. فهذا، إذاً، بيان من الله تعالى أن الحكم إنما يكون ذا صفة معينة حاسمة لا توسطية فيها ولا حياد، فإما الحق وإما الضلال أي الصدق أو الكذب. وليس الأمر في تجاوز منطق القيم المتعددة قاصر على الجانب الإيجابي لمنطق المستويات المتعددة وإنما أيضاً على النحو السلبي بإظهار جل الأساس المعتمد عليه في إقامة منطق القيم المتعددة هو أساس سمته الجوهرية نقص العلم وقصور الوعي عن إدراك الوجود على نحو كلي في لحظة زمانية، وهذا مستحيل أصلاً على ما سوى الخالق تعالى ولذلك كان الوحي الإلهي هو العنصر الحتمي اللزوم في إدارة العلم بمقتضى المخزون الدلالي الكلي في نصوص الوحي. وعلى هذا يمكن القول بأن منطق القيم المتعددة هو يعبر عن الفاقد المعرفي لدى الانسان وليس التمام المعرفي، أو بقول آخر هو ما يفسح المجال لمساحة الفاقد في الوعي البشري وإثبات عنصري الاحتمالية والنسبية في الأحكام كضرورة منطقية مؤداها عدم القدرة على التنبؤ العلمي القاطع بتحول الظواهر في اللحظة المستقبلية وفق القواعد والمعايير العلمية في اللحظة الراهنة من جهة، ومن جهة أخرى عدم قدرة العقل البشري على الإيفاء بجميع العلاقات السببية المعقدة التي تربط الظاهرة موضوع الحكم بظواهر الكون الأخرى على شدة اختلافها وتنوعها وكثرتها في لحظة الحكم. إذاً، فمنطق القيم المتعددة ناتج عن اعتراف البشر بقصورهم الذهني المجرد حقائق الكون بكلياتها ناهيك عن وضع التعبير المنطقي المحكم عليها.
هذا من جهة الحكم بقيم الصدق والكذب، مع ملاحظة أن قيم الحكم هذه لا تؤخذ وفق القياس الأرسطي التقليدي فحسب، وإنما بالأحرى وفق قوائم الحساب المنطقي لدالات الصدق في المنطق الرمزي الحديث حيث لا تقوم العلاقة بين الثوابت والمتغيرات على هيئة قياس المقدمات والنتائج تائج المترتبة عليها وإنما تتجاوز ذلك إلى تعيين الوضع التركيبي للقضايا والعلاقاتت بينها من جهة تحليل احتمالات الصدق والكذب فيها والخروج بالقانون الحاكم لهذه الاحتمالات بحسب الدوالوال (الأساسية: التضمن أو اللزوم، الاقتران أو العطف، الفصل القوي، الفصل الضعيف، التكافؤ)) على هيئة معادلات وجداول أو قوائم صدق وصولاً إلى الدالة الرئيسية المحورية التي يفترض صدق جميع احتمالاتها صدقاً تكراريا كاملاً ً بما يعرف بـ (تحصيل الحاصل) Tautology.
أما من جهة توسيع العلاقات أو الثوابت المنطقية وفق اتساع التصور للمستويات الدلالية المتعددة وفق مجالات أو أحوال الوجود المختلفة، فيمكن استنباطها استناداً على فيتجنشتاين فيما أورده بمؤلفاته الفلسفية المتأخرة (بحوث فلسفية) و(في اليقين) و(الثقافة والقيمة) وغيرها، من الفصل بين المعنى Meaning والدلالة Reference وإمكانية تعدد المعاني على الدلالة الواحدةة، وذلك من خلال استخدامه لمفهوم (الألعاب اللغوية) Language-games حينما يتعامل مع أي نص لغوي في بناء معناه وفق سياقات استخدامه المتعددة، فليس هناك معنى مطلق جامع مانع لعلامة لغوية واحدة، وإن استخدمت في نصوص عديدة، إذ أن معانيها ودلالاتها تختلف بحسب كيفيات استخدامها في سياقات النصوص الواردة فيها. وعلى ذلك يكون هناك في منطق القيم الثنائية مستوً دلالي وقائعي هو العلاقات الرابطة فقط بين حالات (الأشياء) المادية في الواقع، وعلى رأس هذه العلاقات ما يعرف بــ (دالة التضمن المادي) والتي قاعدتها المنطقية أنها تصدق في كل الأحوال ما عدا حالة واحدة هي صدق المقدم وكذب التالي. فهذه دالة مقررة وثابتة كمستوى دلالي أول، وإنما يضاف عليها مستوً دلالي ثاني أعلى وأكثر تجريداً يحدد علاقة (التصورات بالأفعال)، ويستفاد في هذا المستوى أساساً من مبدأ الفصل بين المعنى والدلالة بكون أن (المعنى) هو عنصر ذهني تجريدي قد يتعدد بصدد (دلالة) واحدة، والتي هي الإشارة إلى الأشياء في وجودها الواقعي العيني، جراء متطلبات السياقات التي تردترد فيها؛ لذا يمكن أن يصطلح لهذا المستوى بدالة جديدة تعرف بـ (دالة التضمن المعنوي) بكونها تقوم على مستوى التجريد الذي هو خاصية (المعاني) في مقابل (دالة التضمن المادي) التي تقوم على مستوى الوقائع المتعينة والذي هو خاصية (الدلالات). ودالة التضمن المعنوي هذه لا تنفك عن ارتباطها بدالة التضمن المادي وذلك على اعتبار أنها تعطي حالة من التوقع لتحقق التصور بصدد (دلالة) معينة من خلال (الفعل).
أما المستوى الدلالي الأكثر تجريداً فهو علاقة المستويين السابقين بالمجال المطلق، والذي يمكن أن أن تتكافئ فيه كل الااحتمالات لحدوث وعدم حدوث الظاهرة؛ أي الجمع بين النقيضين المتضادين (الموت) و(الحياة) في آن معاً، ونموذج ذلك علاقة الوجود بالله تعالى وارتباط ذلك بأحوال العالم الآخر وظواهر الخوارق النفسية، والتي لا تقتصر على الشرط الوقائعي المادي ولا المعنوي الذي يخضع له العالم في أحواله العاديةة بنحو ما جاء في الآية الكريمة “ثم لا يموت فيها ولا يحى” (الأعلى، 13) فلا يمكن لقانون عدم التناقض ض اللازم للمنطق التقليدي أن يحكم فيها. ويمكن التعبير عن هذا المستوى بدالة جديدة تعرف بـ (الدالة المفتوحة) وتقوم في مقابل دوال التكافؤ المنطقي والاقتران والبدل والفصل في مستوى الوقائع.
هذا، ويمكن صياغة القاعدة المنطقية لدالة التضمن المعنوي بأنها تصدق في كل الأحوال ما عدا حالة واحدة هي كذب المقدم وصدق التالي بخلاف دالة التضمن المادي. والقاعدة المنطقية للدالة المفتوحة أنها تصدق في جميع الأحوال ال دونما استثناء. ومن هنا يجدر القول أن محور الانتباه لا يقوم بصدد د البناء المنطقي لما يقال وإنما بصدد ما يفهم مما يقال في إطار الصياغة المنطقية، وعلى ذلك فإن منطق المستويات المتعددة يقوم بالأساس على اعتبار معنى المتغيرات المعبر عنها بالرموز ودورها في تحديد الثوابت أو العلاقات المنطقية . وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا البناء لنسق منطق المستويات المتعددة هو بناء أولي لغرض تأسيس النسق ولفت الانتباه إليه واستعمال مادته الفلسفية في التوجيه التطبيقي للنظم، ويستلزم أن يتم فحصه مزيداً وتطويره واكمال تراكيبه ودواله وأبنيته.
ويمكن القول أن الأساس الفلسفي لهذا النسق المنطقي الجديدد في مجمله إذا كان قد انسحب على مجال العلوم الطبيعية والتطبيقية في معرض صياغة القوانين العلمية وذلك من خلال ما عرف في الراهن المعاصر، وأشرنا إليه سلفاًً عند ثوماس كون، بنظريات (النموذج المعرفي العلمي) والتي تقرر فيها خضوع العملية المنهجية في تكوين العلم لمبدأ (تحديد زاوية الانتباه لدى المراقب)، والتعامل مع الوقائع وفق المنظور الجشتالتي الذي يقوم عل مفهوم (المجال) أو (الحقل) Field الذي تنتمي إليه الظاهرة موضوع الدراسة؛ فإن هذا يؤدي بدوره إلى تجاوز الرؤية الكونية الشاملة الأحادية إلى تصور
العديد من الرؤى الكونية الشاملة وهو ما تمت استعارته من فيتجنشتاين فيما يعرف بـ (دالة صورة العالم)، فيمكن القول أن هذا الوضع إذا كان قد انسحب على مجالات قوانين العلم الطبيعي فإنه أولى ينسحب على العلوم الإنسانية والاجتماعية بطبيعة عة الحال فيها بكونها تقوم على دراس ةظواهر تتمتع بقدر من التغيير والتحول وحرية الإرادة أكبر كثيراًً مما تتمتع به الظواهر موضوع دراسة العلوم الطبيعية . وهكذا فإن منطق المستويات المتعددة يقوم على تعدد مستويات الحقل الدلالي المنطقي للنصوص اللغوية الاستعمالية حيث أن لكل كلمة أو علامة لغوية سقف دلالي مرن في استخدامها بحسب السياقات التعبيرية اللغوية. ولعل خير شاهد على هذا هو (القرآن الكريم) حيث تحتمل نصوصه مدىً متسعاً من تجدد التفسيرات والتأويلات عليهه، مع بقاء تأليف أو تركيب النص ثابتاً، بما يكشفه تقادم العصور أمام العقل الإنساني من كشوفات كونية جديدة، ولعل هذا ما سميت به نصوص القرآن (آيات).وعلى هذا الأساس، كان هذا النسق المنطقي مسوغاً كافياً، يمكن القول، لتعدد الرؤى الكونية الفلسفية الشاملة على الحقيقة الكونية وتحاورها معاً بما لا يسقط رؤية دون أخرىرى، ومن ثم يسوغ لإمكان تعدد بناء النظم والبرامج الوظيفية بحسب تتعدد الشعوب والقبائل وطرق الحياة مع بقاء الإطار القيمي الكلي قائما ثابتاً.
وخلاصة الأمر، فإنه على اساس منطق المستويات المتعددة هذا يمكن تجاوز (عدم التناقض) القاضي باستحالة بقاء البديلين معا فلابد ليبقى أحدهما أن يرتفع الآخر ، وأيضا تجاوز (الثالث المرفوع) القاضي بثبوت إما البديل الأول أو البديل الثاني دون احتمال لوجود بديل ثالث، باعتبارهما من قوانين التفكير الاساسية في مستوى منطق القيم الثنائية الارسطي.
فبواسطة منطق المستويات المتعددة يفتح المجال للآداب والفنون الابداعية لأن تكون بذاتها بعدا معرفيا حقيقيا بجانب العلوم باعتبار تعدد المستويات الدلالية في التفكير نحو اي ظاهرة كونية.
(هذا المقال هو توثيق لاطروحة دكتوراة، وائل أحمد خليل الكردي، بعنوان (فلسفة فيتجنشتاين المتأخرة كأساس لنسق منطق المستويات المتعددة – 2002م)