رأي

التعايشي، ظالم أم مظلوم؟

عبد القادر دقاش

مثلما تستمد المفاخرات الاجتماعية مشروعيتها مما تقره الذاكرة الجماعية وتعترف بمصداقيته، فإن العوامل الثقافية تساعد على انتشار الخطاب التاريخي أو إقصائه دون أن تترك للمتلقي فرصة الوقوف على الأحداث ليرى إن كانت مقنعة أم لا.

لذلك يظل الخطاب التاريخي السائد مسلمة لا تقبل الجدل بسبب ما أشيع عنه، ومحمي بالأحكام المسبقة من أي قراءة نقدية تحاول مواجهته أو مساءلته.

ومن الواضح أن الخلاف التاريخي حول المهدية مبني على الصراع في توظيف التاريخ من خلال الخصوصيات الثقافية والاجتماعية..التي شكلت الإدانة السياسية الصادرة عن هاجس يتعلق بالأخلاق أكثر من تعلقه بالأحداث الناتجة عن الصراعات والتناقضات، التي تمكن المتلقي من التمييز بين التاريخ الكائن الواقعي والصحيح، والتاريخ المكوّن المكذوب والموضوع.

وأكثر الأحداث تكويناً هي خلافة عبد الله التعايشي للمهدي، وما أثير حولها من شبهات، يقول نعوم شقير: “تولى التعايشي الخلافة وهو لا يصدق أنه يتولاها وكان يغار عليها حتى من خياله ويحرص عليها حرصه على نفسه…” وما أثير حول منازعة الأشراف من أقارب المهدي للخليفة في خلافة المهدي زاعمين أن الخليفة عبد الله لا يستحق شرف القيادة لأنه لا يملك مؤهلاُ دينياً، فهو لم يكن من الفقهاء أو القضاة أو أهل العلم بالإضافة إلى موقعه الطبقي فهو لم يكن من الأسر الكبيرة أو من القبائل المشهورة أو من التجار أصحاب الحظوة الاجتماعية، وعدوا ذلك ضربة من ضربات الزمان، فكرهوا أن ينقادوا إليها، ورأوا أن المهدي قد أسس مهدية وملكاً فلماذا يولون عليهم عبد الله التعايشي غريب الوطن والجنس.

وقيل أن الملك أبا حجل ملك الرباطاب لما عاد من مبايعة الخليفة من أم درمان حضر أهله للسلام عليه وسألوه عن البيعة الجديدة فقال: “البيعة أس” أي اسكتوا. ولما عاد الشيخ أبو خرسي من مبايعة الخليفة إلى قومه في المسلمية قال لهم” اشفقوا على أنفسكم أيها الناس واستغفروا ربكم عما فرط منكم فإنها مصيبة عامة وقد حلت في السودان وليست من المهدي بشيء”. ومما أشيع أيضا أن الخليفة لما طلب سيف المهدي لم يجده لأن نساء المهدي أخفينه عنه ثم أعطينه للخليفة شريف فقد زعموا أن النصر يكون فيه وكان ذلك من أهم أسباب الضغائن بينه وبين الأشراف.

وتصورات من هذا القبيل هي وليدة اعتبارات تختزل في حد ذاتها السبب والنتيجة، وبذلك لاتصلح أن تكون نقطة ارتكاز يمكن للمؤرخ الانطلاق منها أو التأسيس عليها في معرفة التاريخ ومنطق تطوره.

ولا شك أن وفاة المهدي أثارت الحيرة والإشفاق من جهة والشك والإنكار من جهة أخرى. فالمهدي مات قبل أن ينجز وعده بفتح مكة وتلقي البيعة الكبرى هناك. وقد وعد بالصلاة في المسجد الأقصى وفي الكوفة والبصرة لكن هذا لم يتم أيضاً. ولم يتم فتح مصر ليزيل بسيفه دولة الترك. ولم يحصل للناس كذلك السعادة المرجوة فقد بلغهم أن سعادتهم تتم على يد المهدي المنتظر. إضافة إلى الطامعين الكثيرين الذين جاءوا إلى المهدي من أجل المغنم يريدون عرض الدنيا. كل هؤلاء طعنوا في حقيقة المهدي، وبدأوا ينفضون أيديهم عن المهدية وينقضون عهدهم مع المهدي وينفضون من حول الخليفة.

ولا شك أن الخليفة عبد الله الذي جعله المهدي محل ثقته وأوصى له بالخلافة وهو يجالد الموت، كان مؤمناً بالمهدي وبالمهدية إيماناً لا يداخله شك، وكان معتقداً في المهدي اعتقاداً راسخاً لا يتزعزع، وقد رأى فيه المهدي استمرارية الدعوة، والإعلاء منها بالصدق والتفاني، وهما من الركائز الضرورية في نشر أي دعوة. فالمهدي كان عظيماً في تفكيره وعظيماً في سلوكه أيضاً فقد نأى بدعوته عن العصبية القبلية بل بناها على السبق في قبول الدعوة والإيمان بها لذلك سمى عبد الله التعايشي وقومه ركائز المهدية وأهل الجزيرة أبا الأنصار ثم أهل جبل قدير وأهل الأبيض وهكذا كان ترتيب الأتباع حسب الأسبقية والصدق في الإيمان بالمهدية.

وما كان من الخليفة المؤمن بالمهدي والمهدية حتى المشاش إلا إنفاذ أمر المهدية، فقد خطب في الأنصار الذين داخلهم الشك في موت المهدي – وقد كان الخليفة قوي الشخصية، عظيم الثقة بالنفس، عميق الإيمان بالمهدي وبما جاء به، دقيق النظر في الأمور – خاطبهم قائلا: “أيها الأخوان إن االمهدي الآن قد مات ولكن مات النبي من قبله وقام الخلفاء بعده فأتموا عمله. وقد ترك المهدي خلفاء يتولون الأمر بعده وأنا خليفته الأول فمن أحبه وآمن به فليبايعني الآن على السبيل الذي خطه لنا لنقتفي أثره ونتم عمله”..كما أعمل سيفه قتلاً وإرهاباً في المرتدين والمشككين في أمر المهدي..حتى أنه لم يتوان في وصف الرافضين للمهدية بالمشركين والمرتدين فقد قال في إحدى خطبه “فإن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهملوا الدين بعده بل تحزبوا عليه وأيدوه وجاهدوا في الله حق الجهاد ورغموا أنف أهل الشرك المرتدين وفتحوا كثيراً من البلاد، ولكم بهم أسوة حسنة فاقتفوا أثرهم لتنالوا نيلهم وتدركوا اللحوق بنبيكم ومهديكم معهم”..

نلاحظ أن كثيراً من المؤرخين أهملوا طبيعة الصراع الذي واجهه الخليفة بعد وفاة المهدي وركزوا على الخلاف المزعوم مع الأشراف ومن ثم تم بناء منظومة معرفية أخلاقية معيارية كاملة (مكونة) معزولة عن الأحداث الواقعية (الكائنة) وتعاملوا مع الظاهرة التاريخية من خلال مضمونها الاجتماعي الطبقي المتأسسة على الاعتبارات النفعية الخالصة..والشواهد التي تدل على أن الخليفة شريف لم ينكر تولي عبد الله التعايشي للخلافة واضحة وشاخصة وواقعية لأن الراية التي كان على رأسها الخليفة هي من أقوى الرايات عدة وعتاداً وراية الخليفة شريف هي من أقل الرايات عدة ونفرا، فهي تأتي الثالثة بعد الراية الخضراء راية الخليفة علي ود حلو التي ينضوي تحتها قبائل دغيم وكنانة وقبائل النيل الأبيض..وراية الخليفة شريف فيها بعض من قبائل الشمال وقبائل الجزيرة.. فضلاً عن أن الأشراف أصلا لم يطعنوا في مقام عبد الله الديني، بل إن هذا لم يكن مقبولا بعد أن أكده المهدي بعبارات قاطعة ونسبه إلى إرادة الرسول. وحتى عندما تحركوا ضد الخليفة عبد الله كان مطلبهم الوضع المناسب للخليفة شريف في تقرير الأمور وألا تمس امتيازاتهم الخاصة ولا ينال من مواقعهم. ولما حصلوا على وعد بذلك انفكوا عن التمرد. ولكن الخليفة عبد الله لم يحافظ على وعده بل نكص فيه فزادت المرارة وأدت إلى التحرك ومن ثم تصفيتهم.

لكن يبدو أن الخليفة كان يرى رأي المهدي في مسألة التفاضل في الامتياز وما عرف عن المهدي ايثاره لذوي قرباه بل مَن ظهر منهم في المهدية إنما برز لسابق إخلاصه وولائه للمهدية وما عرف عنه أنه قرب قبيلة بذاتها، فالكل عنده سواء يمتازون بإيمانهم برسالته وصدق خدمتهم لها، وكان يرى المساواة هي أساس دعوته، والزهد والتقشف دليل إيمان بدعوته، لذلك انتقد في إحدى خطبه تكالب قومه الأشراف على الدنيا وحبهم للمال وهاجمهم علنا في المسجد وتبرأ من تكالبهم على الدنيا وإغداق أحمد سليمان عليهم.

ولم يكن أحمد سليمان من أقارب المهدي لكنه كان ميالاً للأشراف ويرجح بعض المؤرخين أنه السبب الأساسي في الجفاء الذي طرأ بين الخليفة وبين الأشراف لأنه أصبح من قادة حركة الأشراف ضد الخليفة وكان محرضاً وموجهاً لهذه الحركة التي قادت إلى إعدامه في الفئة الأولى من قادة الأشراف.

وأحمد سليمان هو الأمين الأول لبيت المال منذ إنشائه وقد بنى هذا المرفق ولكن يبدو أنه لم يضع ضوابط محاسبية محكمة فيه. وهو لا يمت بصلة الدم إلى الأشراف ، ولكنه كان الصديق المقرب إلى المهدي وموضع ثقته. وقد عرف بإيثاره للأشراف وإغداقه عليهم وتقتيره على قرابة الخليفة وأهل رايته. وقد أخذ المهدي على الأشراف حبهم للمال وعلى أحمد سليمان بالإغداق عليهم في خطبته بالجمعة الأخيرة بالمسجد وتبرأ من فعلتهم، ويبدو أن ذلك كان صدى لاتهام الخليفة لأحمد سليمان في ذمته والمطالبة بمراجعة حساباته.

لم يكن الخليفة بأي حال من الأحوال نسخة من المهدي، ولم يقتف أثر المهدي إلا من خلال المحافظة على جذوة المهدية مشتعلة كما تركها المهدي، فالمهدي بنى دعوته على مثالية دينية، آمن بها البعض وكفر بها كثيرون، ونافقها آخرون..فجاء الخليفة من بعده بواقعية سياسية اقتضت مساومة ومرواغة ومكايدة، تناسب شخصيته السياسية، لكن جاء دارسو التاريخ، متعصب بعضهم ومتحامل بعض آخر، واي دراسة للتاريخ تبنى على التعصب أو التحامل للرجال دون النظر في الوقائع التاريخية أو المنظومة المتفاعلة من العلاقات والتناقضات والمصالح الاجتماعية لا تكون من التاريخ في شيء.

ولأن الدولة لا تقوم حسب المفهوم القديم إلا بالعصبية فقد أحاط الخليفة نفسه وحمى دولته بالمقربين من جهة قرابة الدم أو الثقة أو الإيمان بالمهدي من جميع المكونات – فقد وشى كثير من المؤمنين المخلصين للمهدي من أهل الشمال بأهلهم الذين طعنوا في مهدية المهدي – وليس أهل الغرب فحسب، لأن أهل الغرب لم يكونوا جميعهم من المؤمنين بالمهدية أو المخلصين لها فقد تمرد الرزيقات ولم يحمل الكبابيش أي حب للمهدي، وانفض كثير من أهل كردفان عن المهدي بعد إعدام زعيمهم المنة إسماعيل..لذلك من الخطأ ظن المؤرخين أن الخليفة اعتمد كليا على عصبية جهوية، فلا تعدو عصبية الخليفة أن تكون عصبية عقائدية جمعت تكوينات وشعوبا مختلفة الأعراق والأمزجة، إضافة إلى أن الخليفة غير محسوب على التعايشة عرقا أصيلا. ..فضلاُ عن أن الخليفة حمل كثيراً من أهل الغرب وغيرهم إلى المجيء والعيش في أم درمان، لضمان ولائهم من جهة وضمان عدم تمردهم من جهة أخرى.

وقد ظن بعد المؤرخين أنه كان بإمكان الخليفة استمالة بعض قبائل الشمال من الذين لم يحاربوه، لكنهم أغفلوا مسألة الإيمان بالمهدية باعتبارها أصلا من الأصول بل هي الأساس الذي بنى عليه التعايشي حكمه ودولته، لأن الدولة قائمة على دعوة الإمام المهدي واتباع تعاليمه التي كان لزاما على الخليفة بحكم الاختيار أن يمضيها بقوة السيف وخاصة أن العهود في حقبة الخليفة لا تمضي بدون القوة، والدعوة بدون القوة ليست إلا كلمات لا قدرة لها على المحافظة على حياة الناس، ولا يردع الناس عن التمرد والارتداد إلا السيف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى