الحراك الدولي والسوداني لإيقاف الحرب: الفرص والمحاذير
الحلقة الثالثة: الحراك الأوروبي ودعوات السودانيين : فرنسا – سويسرا – فنلندا
الدكتور عبد الرحمن الغالي
(1)
مدخل:
هناك حقائق هي في عداد البديهيات ولكن لا بد من التذكير بها حتى يكون للكلام معنى ولا ينحرف لقضايا إنصرافية وهي:
• أن السياسة بصفة عامة والسياسة الدولية خاصة تقوم على المصالح، فلا يمكن أن نغفل أن لكل دولة أو منظمة أو مجموعة، مصالح معينة تسعى لتحقيقها، أو لضمان استمرارها، سواءً أكانت مصلحة مادية أو معنوية ( نفوذ ، أيديولوجيا، الخ).
• وبالتالي فالوساطات والمواقف والضغوط المختلفة تسعى لتحقيق تلك المصالح للجهات المختلفة، وأن النتيجة أو المحصلة النهائية هي حصيلة صراع المصالح والرؤى لكل الأطراف الدولية والاقليمية والوطنية.
• ولا شك أن هناك أطماعاً إقليمية ودولية في بلادنا مضمرة وظاهرة تتوسل لها الأطراف بالوسائل السياسية أو حتى العسكرية المباشرة، مثلما نرى في حربنا الحالية.
• ومع ذلك يجب أن نستفيد من كل نشاط لمصلحة بلادنا مع علمنا بأجندة أصحابه وأن نرفع يدنا منه متى ما تعارض مع مصلحتنا الوطنية بل ونقاومه.
• إن الرؤية التي أؤمن بها أن الحل السياسي السلمي هو أفضل خيار متى ما حقق الأهداف الوطنية وتجنب الخطوط الحمراء أو الثوابت الوطنية.
• ولن يكون هناك حل سياسي مستدام ما لم يكن شاملاً لكل المكونات السودانية. فهذه هي عبرة تاريخ الحروب الأخيرة كلها.
وعلى ضوء هذا المدخل تأتي نظرتي للقاءات القوى السياسية والمدنية الأخيرة في باريس ومنترو وهيلسنكي، نذكر إيجابياتها ونحذر من مواطن الانزلاق فيها.
(2)
لقاءات باريس – مونترو – هيلسنكي:
في 15 أبريل 2024 انعقد سمنار الحوار المدني السوداني في باريس بدعوة من الإتحاد الأوروبي والحكومتين الفرنسية والألمانية على هامش المؤتمر الدولي الإنساني.
وفي الفترة من 17 إلى 21 أبريل 2024 انعقد في مونترو اللقاء التشاوري لقوى مدنية وسياسة سودانية بدعوة من الخارجية السويسرية ومنظمة بروميدييشن.
وفي الفترة من 25 إلى 26 أبريل 2024 انعقد لقاء آخر في هيلسنكي بدعوة من منظمة CMI لقوى مدنية وسياسية لحضور اجتماع يضم الآلية الأفريقية الموسعة بخصوص السودان.
تمت الدعوة للمشاركين من الجهات المذكورة آنفاً بصفة شخصية ( أي أن الأشخاص لا يمثلون منظماتهم ولكنهم معروفون بمواقعهم المهمة في منظماتهم، بل بسبب مواقعهم تم اختيارهم). والأمر الآخر أن هذه الأنشطة تجري على قواعد ( شتام هاوس) والروح المرشدة لتلك القواعد تلخصها المقولة: ( شارك المعلومة التي تتلقاها ولكن لا تكشف الشخصية التي قالتها). ولذلك أمكن الحصول على قدر كبير من المداولات في الصفحات الشخصية للمشاركين والمدعويين على وسائل التواصل الاجتماعي ومن الإعلام العادي أو من الإفادات التي سجلها الناشطون من المشاركين.
(3)
أولاً: سمنار الحوار المدني السوداني في باريس 15 أبريل 2024:
من أهم الاختراقات التي أفلح فيها هذا الملتقى أنه جمع أطرافاً مختلفة. فقد جمع فيمن جمع كتلة (تقدم) وأهم ممثليها د. عبد الله حمدوك رئيس الكتلة، ود. التجاني السيسي رئيس قوى الحراك الوطني والسيد جعفر الصادق الميرغني رئيس الكتلة الديمقراطية والسيدة سلوى آدم بنية مفوضة العون الإنساني بحكومة السودان من الحركة الشعبية شمال جناح مالك عقار ود. ياسر فتحي كدودة من تحالف التراضي الوطني برئاسة مبارك الفاضل، وشخصيات محسوبة على الإسلاميين إضافة لشخصيات لمكونات قبلية مثل السلطان سعد بحر الدين وشخصيات مجتمع مدني بعيدة عن تقدم.
ناقش الإجتماع أجندة سياسية بحتة بغرض الوقوف على آراء الجماعات والاتجاهات المختلفة ورؤيتهم حول كيفية وقف الحرب ومقومات الانتقال المطلوبة ومطلوبات إعادة الإعمار حسب ما ذكر أحد المشاركين في صفحته، وهو ما يتطابق مع التفصيل الذي أورده الدكتور محمد ناجي الأصم في اعتذاره عن المشاركة حيث قال أن الأجندة تشمل ( أجندة سياسية كبيرة من قبيل: ماهي المبادئ التي يجب أن تكون موجودة في اتفاق وقف العدائيات، ماهو شكل الإنتقال الجديد وكيف يمكن أن يشمل الجميع؟ وماهي المبادئ الدستورية التي يجب أن تحكم سودان مابعد الحرب؟).
وبالطبع لم يخلص الإجتماع إلى نتائج متفق عليها وهذا متوقع عند أول لقاء. ولكن من الجيد أن يمضي الناس في سياسة الخطوة خطوة بعد كسر الحاجز النفسي في لقاء الأطراف ليتوسع الأمر فيشمل ما نراه مناسباً وضرورياً لحل سياسي شامل ومستدام وهو الحوار السوداني الجامع الذي لا يستثني أحداً ولا يهيمن عليه أحد.
المآخذ على اللقاء :
ذكر الدكتور محمد ناجي الأصم ما رآه مآخذ مانعة من حضور اللقاء ( نتفق معه في بعضها ولا نتفق معه فيها كلها) حين قال ما ملخصه:
• ضيق الوقت للمشاركين لتحضير رؤاهم في القضايا السياسية الكبرى ( حيث لم يفصح مقدمو الدعوة عن الأجندة والحضور إلا متأخراً جداً) وكذلك ضيق زمن السمنار لمناقشة تلك القضايا ( يوم واحد).
• وضع أجندة كان من المفترض أن يضعها السودانيون بأنفسهم أو على الأقل مشاورتهم فيها).
• التحفظ على طريقة إشراك شخصيات محسوبة على النظام البائد، وأخرى ساهمت وأيدت انقلاب أكتوبر 2021 حيث رأى أن القوى الديمقراطية قد وُضعت أمام الأمر الواقع. فكان الصحيح إذا أرادت القوى الديمقراطية الحوار مع تلك الجماعات أن يأتي قرارها ذاتياً وبعد نقاش وتوضيح المبررات للرأي العام.
ورأى الدكتور أن هذه الطريقة تضعف تماسك القوى المدنية الديمقراطية.
هذه هي مبررات المقاطعة وأنا أتفق معه في الأخطاء الإجرائية المقصودة في وضع المشاركين أمام الأمر الواقع، واتفق معه في ضرورة ملكية السودانيين للعملية السياسية ووضع أجندتها ولكن أرى أن ذلك يمكن أن يقال داخل الملتقى حيث أنه لا إلزامية بمخرجاته ولا يمثل الحاضرون إلا أنفسهم وأن الملتقى نفسه عملية تمهيدية وليست مؤتمر الحوار المرتقب الذي ينبغي أن تكون ملكيته سودانية.
كما أختلف معه في رفض الجلوس مع الأفراد المحسوبين على النظام البائد ومساندي انقلاب 25 أكتوبر لعدة أسباب منها أن الحرب والمأساة الإنسانية خلقت وضعاً جديداً صار وقف الحرب فيه أولوية. وثانياً لأن هذه القوى قد توزعت بين الفريقين ودخلت في منظمات القوى المدنية الديمقراطية نفسها مثل دخول جماعة على الحاج وكمال عمر وجماعة سليمان صندل وجماعة الطاهر حجر وجماعة الهادي إدريس وجماعة محمد الحسن الميرغني وهكذا ).
الخلاصة مع علمنا بمنطلقات وأهداف الفاعلين الدوليين والاقليميين فإن اللقاء يشكل خطوة مفيدة كسرت الحاجز النفسي المانع للحوار السوداني السوداني الجامع. ذلك الحاجز مضر مهما كانت مبرراته من طهرانية (حقيقية أو مزيفة) ومن احتكار للحق وبالتالي للصوت المدني وتمثيل الشعب. فالشأن السوداني شأن كل السودانيين والذي أراه على الأرض أن كل هذه القوى السياسية قد فقدت تعاطف قطاع عريض من الشعب السوداني وأعجب كيف تغفل عن هذه الحقيقة قوى تعمل بالسياسة التي هي في جوهرها عمل من الجماهير وبالجماهير وإلى الجماهير؟
(4)
ثانياً: مونتيرو سويسرا: المشاورات غير الرسمية لدعم العملية السياسية بالسودان 17 إلى 20 أبريل 2024
نظمت هذه اللقاءات وزارة الخارجية السويسرية بالتعاون مع منظمة بروميدييشن. وتأتي هذه المشاورات إمتداداً لجلسة حوار جرت في يوليو 2023. شملت الدعوة 20 شخصاً إضافة لحضور الإتحاد الأفريقي. ومما كتبه أحد المشاركين من شرق السودان في المشاورات يتضح أن هناك اختلافاً في المدعويين عن قائمة مؤتمر باريس.
جاء هذا اللقاء ( مثل مؤتمر باريس) بغرض خلق أرضية مشتركة وتجسير التباعد بين الأطراف السودانية وصولاً لرؤية لعملية سياسية شاملة وإنهاء الحرب.
وتسعى سويسرا أيضاً لتكون طرفاً في المساعي الحميدة أو التوسط في القضية السودانية عبر هذا المجهود. واللقاء أيضاً ملتزم بالسرية وعدم مشاركة الإعلام لمداولاته.
أما منظمة بروميدييشن فقد تحدثنا عنها في مقالات سابقة وعن ورشها حول السودان في القاهرة والنيجر وأثيوبيا . وتذكر المنظمة عن نفسها أنها مهتمة بإقليمي دارفور وشرق السودان (!).
وبحسب ما رشح من معلومات حول اللقاء أيضاً هناك نقاط إيجابية تمثلت في جلوس أطراف سودانية متباعدة ( وإن لم يكن الملتقى شاملاً) وأن هناك إجماعاً سودانياً على ضرورة وقف الحرب وعلى وحدة السودان وعلى ضرورة حوار سوداني سوداني قومي وعلى الحكم المدني لسودان موحد يحترم التنوع وإن اختلفوا في بقية التفاصيل وتفسير الحوار السوداني السوداني الجامع وفي قضايا أخرى.
(4)
لقاء هيلسنكي ( فنلندا) 25 – 26 أبريل 2024
هو لقاء نظمته منظمة CMI للقاء الآلية الأفريقية الموسعة بخصوص السودان لعرض ما تقوم به على المشاركين، وكذلك استعراض المبادرات السياسية والإنسانية الجارية في باريس وجدة وغيرهما.
ومنظمة CMI هي مؤسسة سلام فنلندية تعمل في مجال منع وفض النزاعات. وكانت المنظمة قد جمعت – حسب ما ذكرت في موقعها الرسمي – مجموعة من المدنيين السودانيين والشخصيات الوطنية المؤثرة في نيروبي في الفترة من 5 – 6 سبتمبر 2023 بغرض تحديد آليات توحيد القوى المدنية من أجل إيقاف الحرب (من أراد الإطلاع على تلك الورشة والمجموعات المشاركة فيها فليرجع إلى موقع منظمة CMI الفنلندية).
وكسابق اللقاءات اتفق المجتمعون في هيلسنكي على عموميات جيدة مثل ضرورة وقف الحرب ومعالجة الحالة الإنسانية وضرورة عملية سياسية شاملة وتوحيد المبادرات وإشراك المدنيين ومراقبة وقف إطلاق النار بعد الوصول إليه الخ.
الجيد في هذه الأخبار أن هناك اتجاهاً لقبول السودانيين للجلوس مع بعضهم نأمل أن يتوسع ليشمل الجميع لحل المشكلة. والسيء في هذه الأخبار أن السودانيين إذا جاءتهم مثل هذه الدعوات من الأجنبي أزرق العينين قبلوها، وإذا جاءتهم من الوطني خوّنوه، وهذه قمة القابلية للإستعمار. ولكن أن تأتي متأخراً خير من ألّا تأتي.
في الحلقة القادمة إن شاء الله نواصل الحديث القديم عن طبيعة هذه الحرب وتوصيفها والذي انقطع لعدم مناسبة الكلام في ذلك الوقت لمقتضيات المصلحة العامة.
أما وقد تسابقت الأحداث وبانت لكل ذي عينين فلا بد من الحديث حتى يتحمل كل شخص مسؤولية موقفه.
والله المستعان.