الغابة السرية

عبد القادر دقاش
*(الشجاعة شعور بدائي يمكن لأي شخص أن يمتلكها .. الجسارة هي ما يليق بالعارفين)* .. هل يمكن أن نفسر هذا الاستهلال العميق بأننا إزاء قراءة رواية روحانية أو عرفانية أو حتى إنسانية تتحدث عن قلق الإنسان.. ربما!
أمير الجاك ونقد الله والنور عمسيب ومختار وجيمي، رجال ورد ذكرهم في الرواية وكانوا حاضرين في حياة نساء الرواية إلا أنهم لا يحظون بلفت انتباه القارئ رغم وجودهم في كل تفاصيل الرواية وتشكيلهم جزءاً من مأساة أبطالها.
لم تكتف *(ليلى صلاح)* بتسجيل انفعالات بطلاتها، بل اهتمت بالأزمات النفسية وصفاً يحدد تركيبها النفسي، “…كانت دائمة الضحك وكنت أحس أنها تستر خوفها وارتباكها وهشاشتها خلف تلك الضحكات العابثة”. لكن عمق المأساة لا يقف عند خيانة نشوى ل(درية الحاج)، ف(نشوى) نفسها فريسة لشيء لم تتبين ملامحه، فهي لا حظَّ لها غير جمالها ولم تكن في ثقافة (مريا) أو (درية) ولم تخبر الحياة كما خبرتها (مايا): “عشر سنوات وأنا ملفوفة بالرتابة والضجر” والضجر والقلق يدعوان للدمار الداخلي العنيف، لذلك شقت (نشوى) لنفسها طريقاً لا يخلصها من ألمها ولكن ينسيها الرتابة: “أكتشفت نشوى كيف يمكن أن تحشو ثقوب ذاتها الغائرة والعميقة وتردمها بالرجال”.
ويبدو أن حالة البحث عن شيء مفقود هو أمر لازم بطلات الرواية بصورة مستمرة، وهن يحاولن التخلص من أزماتهن أو التغلب على جراحهن وعجزهن ومن ثم الوقوف في وجه الحياة، والعيش في طمأنينة وهدوء ولكن: “الحياة حالة من النقصان ونحن في بحث دائم عن اكتمال غير موجود” . وكأن على الإنسان أن يتقبل الحياة بشروطها هي دون شكوى: “تبين لي بوضوح أن القطيعة التامة عما هو موجود فعلا ليست حلا، وأن خدعة التماهي التام معه أيضا صعبة إن لم تكن مستحيلة”.
تنقلت الرواية من الإطار الواقعي الذي يتناول المجتمع والدولة والاقتصاد والسياسة وقضايا الهوية إلى الإطار المثالي الذي يأخذ المعاني الكبرى للإنسانية والعلاقة بالله وبالدين و”الهوس بنقاء الذات” والعبادة، “مَن قال إن هناك حقيقة واحدة يجب أن نعبِّر عنها، مَن قال إن هناك موقفاً صحيحاً وحيداً”.
إلا أن الاتجاه الأكبر الذي يمكن أن يتأوله القارئ هو مشكلة الإنسان (نفسه) خوفه، حزنه، فرحه وقلقه الذي يفترسه بلا رحمة وبلا هوادة. الإنسان الذي لا يعرف حقيقة الأشياء إلا بعد فوات الأوان. الإنسان الباحث عن الحرية “…أجمل ما فيها أنها تخلو من وهم التملك فأنا أريدك دون أن يكون مقابل ذلك امتلاكي لحياتك .. لجسدك.. أو حتى لروحك..أنا أحبك وأنت حر من كل ارتهان..أليست مشاعر الحب نفسها عبودية ؟!”
“إنني فهمت أنه علينا أن نعيش أقدارنا بشجاعة ونتقبلها، وإني لا أريد أن أخوض صراعا نتيجته محسومة سلفا؟” هل الإنسان مغلوب على أمره ومحكوم عليه بتقبل قدره كيف كان، أم هذا دليل باطني إشاراته الشعور والإحساس من غير أن يعول على الواقع المادي المحسوس، أم هو استسلام لأنه لا يوجد يقين حاسم ولا شيء يمكن أن يدفع عن الإنسان مصيره المحتوم ولا يحل مشكلاته النفسية التي تعصف به.
لم تجب (ليلى صلاح) عن الأسئلة التي أرقت درية وأرقت من قبلها مريا التي هجرت الحضارة بكل منجزاتها لتعود إلى أكثر أشكال الحياة بدائية، وترى في التدين بكل هوسه وأمراضه وآفاته ومآزقه أرحم حالا من المادية القاسية الباردة التي تغلف أوروبا.
(ليلى صلاح) لم تعطنا الأجوبة السهلة في (الغابة السرية)، ولم تكشف السر المكنون في قلب الغابة رغم لجوئها إلى المفردات الروحية (كما فسرناها) واللجوء إلى الروح يجعل آلام الحياة ومشاكلها محتملة وسهلة، خاصة بعد أن تعرضت للحادث الذي زلزل حياتها وجعلها تكتشف تفاهة الحياة، “مواجهة الموت بشكل عارض جعلتني أفكر في الموت بعمق”… ” إنني لم أغير شيئا وإن الأشياء ستظل كما هي تأخذ وقتها وإنني سأظل أمارس لعبة التسويات إلى النهاية… وصلت إلى يقيني وتخلصت من الأوهام”.
هناك مشكلات لا حل لها..إما أن نتركها للزمن أو أن نلغيها تماماً.. ودرية في لعبة تسوياتها لم تصل إلى الحل النهائي والسعيد .. لم تلتفت للوراء ..لم تقل لنا هل ستحاول بناء ما تهدم من حياتها أم تترك حائطها هكذا يشرف على الانهيار.. ولم تقل لنا كذلك هل تمازجها مع مريا شبيهتها في الروح، قاد إلى التماهي معها في النهاية أم أن كل واحدة منهما احتفظت بعناصرها كما هي..كل ما قالته في ختام الرواية – التي عبرت عن حالات إنسانية شديدة العمق – جملة واحدة: لا أدري…؟!