الغزوة والإرث القضائي الوطني
د. حسن عيسى الطالب
في يوليو 1976 وبعد مرور سبع سنوات من انقلاب جعفر نميري الإشتراكي، الذي تبنى نظام 25 مايو عام 1969م، هجمت قوات شعبية مسلحة تابعة للأحزاب السياسية الوطنية على الخرطوم.
وأطلق الإعلام الرسمي على المحاولة عبارة: “الغزو الليبي” وهي في نظر من تبنوها “غزوة” للتحرير واستعادة الديمقراطية، ضد نظام عسكري انقلابي استئصالي، كرس لنظام ودولة الحزب الأوحد، والتنظيم الواحد: “الإتحاد الاشتراكي السوداني” فجاء بانقلاب 25 مايو 1969م.
وشاركت في الغزوة كل الأحزاب التي تسمى ديمقراطية تحت مظلة ‘الجبهة الوطنية’ والأحزاب الغازية هي التي كانت منتخبة من الشعب السوداني في برلمان 1967م الذي جرى عليه الانقلاب الاشتراكي/البعثي/الماركسي بقيادة العقيد وقتها جعفر نميري. فتشكلت منها الجبهة الوطنية برئاسة حزب الأمة وقيادة الإمام الصادق المهدي، رحمه الله، ومشاركة الاتحادي الديمقراطي والإتجاه الإسلامي.
وتم بعد هذه الحركة المسلحة التي دخلت الخرطوم بمسلحيها من الصحراء المجاورة لليبيا، ولكنها لم تحتل منزلاً ولم تسرق مواطناً ولم تغتصب إمرإة. وخاطب أحد قادتها – إبراهيم السنوسي- طلاب جامعة الخرطوم بالبركس، مقر مجمع داخليات الطلاب بشارع الجامعة.
بعد هذه الغزوة، جاءت مصالحة عامة، تم عبرها التوسع في بسط الحريات وتفريغ المعتقلات، لكن دون السماح بالتعددية الحزبية. وجرى البدء في تطبيق الحكم الإقليمي عبر تعيين حاكم عسكري في 5 أقاليم، بدلاً من المركزية المطلقة، ثم تمت بعد ذلك مراجعة القوانين الاستعمارية المفروضة من الاستعمار، والمستقاة من هجين قانوني هندي/إنجليزي، لتتماشى مع الشريعة الإسلامية، التي ألغاها اللورد كرومر في أكتوبر 1899م بعد هزيمة جيش المهدية في كرري وأمدرمان وبعد والقضاء على رمز حكومة المهدية في أم دبيكرات.
وكانت القوانين الملغاة تمثل الإرث القانوني الوطني والذاكرة المرجعية للممارسة القضائية على مدى ثلاثة قرون، ومنذ قيام السلطنة الزرقاء عام 1502 فانقطع بهذا الاستعمار القانوني القسري مدد ذاخر الفيوض من التجربة التراكمية القانونية لقضاة السودان ودهاقنة العدالة، والتي ربما ضاهت الإرث القضائي البريطاني، لو كان قدر لها البقاء عبر التطور الطبيعي.
بعد 9 سنوات وفي أبريل 1985 جاءت الديمقراطية الثانية والانتخابات عام 1986م التي تشكلت بموجبها حكومتان ائتلافيتان برئاسة حزب الأمة والجبهة الإسلامية مرة ثم ثانية مع الإتحادي الديمقراطي.
يتعين أن يتعلم السودانيون من تاريخهم، وألا يكتفوا بلعن الماضي، والتأفف من الحاضر المعاب، دون بذل مستحقات تغييره، وعدم العيش في غياهب الوهم المريح.
فالمطلوب اليوم التفكير في بناء هيكلي واقعي، يستجيب لتحديات العصر، وأفضل التجارب في إدارة الدولة، بحيث تخاطب بواقعية وفاعلية تحديات التنوع الثقافي والاجتماعي، وتتيح ممارسة ديمقراطية التنمية في البناء والتطور، وتبسط الشراكة في السلطة على المستوى القاعدي grassroots وتتبنى نظام الإدارة الفيدرالية الدستورية كمخرج من الصندوق الإداري المركزي الذي فرضه الجنرال هربرت كتشنر، أبو الانقلابات العسكرية وملهم مغامريها، فعكف على محرابه حواريوه العسكريون، بعد الإستقلال، الذين لم يعد يجدي لعنهم فتيلاً.