الفيدرالية الدستورية والدولة السودانية
د. حسن عيسى الطالب
العبارة المفتاحية في تقرير الاستخبارات الأمريكية الذي كشفت عنه الوثائق المحررة من وكالاتها ما ورد في فقرة: ‘وطن يتكالب عليه الجميع’ في إشارة لمآل سودان ما بعد حكم انقلاب ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م برئاسة الفريق إبراهيم عبود.
وهذا بالضبط ماحدث بعد ٦٥ عاما من التكهن الاستخباراتي الأمريكي بشأن السودان، الذي تمثل في تمرد ١٥ أبريل ٢٠٢٣م ومحاولة الاستيلاء على الحكم بالقوة القهرية، درجا على مسلسل الانقلابات المسلحة السالفة، ووفق المخطط الخارجي العميل، باستثناء المرتزقة والتمويل الخارجي الذي لم تنحدر الى حضيضه سابقاته.
الحل لإدارة البلاد يتأتى بالحوكمة الراشدة، وليس بتحويل العاصمة لإقليم آخر، كما يتراءى للبعض، ولا في تزيين الهياكل السلطوية الجاثمة. السودان، دولة شاسعة المساحة، تقارب مليوني كيلومتر مربعا، وعدد سكانها، حوالي نصف سكان جمهورية ألمانيا الفيدرالية، التي تبلغ مساحتها ١٦% من مساحة السودان.
السودان يحتاج لحكم فيدرالي دستوري وديمقراطي، يتيح لكل مجموعة جهوية على امتداد ترابه الوطني، أن تختار القوانين التي تناسبها، وأن يحكمها أبناؤها عبر الانتخابات الديمقراطية، وتختار دستورها عبر الاستفتاء العام لشعب كل ولاية، برضى عام وتشاور واسع من غالبية مواطنيها. فلها أن تختار الأولويات التنموية لسكانها وفق المعطيات الاقتصادية والموارد المتاحة. وبموجب هذا المنظور تكون كل عاصمة لولاية اتحادية، عاصمة للوطن الكبير، كما كانت مدني قبل محنتها، وكما بورتسودان اليوم.
هذه أفضل وسيلة لإزالة التهميش الإداري، والغبائن السياسية والتنموية الموروثة، وبسط ديمقرطية توزيع السلطات.
فقد ظل السودان منذ الغزو الثنائي عام ١٨٩٩م يدار بمركزية السلطة، وعقلية الحاكم العام الاستعماري، اللورد كرومر، واستعلائية الجهاز المركزي، وسلطة الحزب الحاكم، وعقلية ‘الريس’ الذي يقود المركب وحده، ولا يشرك أحدا في قراره، ولا تحديد وجهة مساره.
هذه مصطلحات أنضاها التاريخ، وتجاوزها الزمن السياسي الحديث، والنظام الإداري، والراهن الحضاري. قصد منها في زمانها الآفل، تكريس المركزية الاستعمارية الموروثة لخدمة أغراض المستعمر، وتحقيق مقتضيات الهيمنة. ولكنها ظلت تمارس في سوداننا الحبيب ومنذ يناير ١٩٥٦م دون انتباه لتداعياتها الخالفة، رغم أنها وبإتفاق عديد خبراء الحكم الراشد وإدارة وبناء الدول، تعتبر أسوأ وسيلة للإدارة، لأنها حاضنة الطغاة والجبابرة، والحاكم الفرد الذي يقول لشعبه: “ما علمت لكم من رئيس غيري”. فكان نتاجها التنمية اللامتوازنة، وتعميم الإحباط، والتردي الإداري والاقتصادي والاجتماعي والأمني الذي يعيشه السودان اليوم. فانحسر الاقتصاد الكلي بمقياس الناتج الإجمالي الوطني GNP بنسبة ٢٠% وبلغ التضخم زهاء ٨٠% بعد أن كان عام ٢٠٢١م نحو ٣٨٢%، وظل معدل النمو الاقتصادي في تراجع راتب منذ عام ٢٠٢١م بمعدل نمو سالب بلغ (1.8% -) بينما يتزايد السكان بنسبة 2.5% وتبلغ نسبة الأمية بين السودانيين في القرن الحادي والعشرين ما يقارب ٤٠%.
هذا حصاد مر ونتاج منكر لممارسات الإدارة المركزية للدولة التي عكف عليها حكام السودان دون تدبر ولا تبصر لفترة ١٢٥ عاما.
الإدارة الفيدرالية للدولة، فكرة مستحدثة ومجربة، وبدأت ممارستها منذ توحيد الإمارات الألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إثر تداعيات مقررات مؤتمر فينا عام ١٨١٥م وإتاحتها فترة مائة عام من السلم والأمن القاري التي نعمت بها أوروبا واستمرت حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. فأثمرت العبقرية الإدارية التي تبنت الكونفيدرالية الدولة الألمانية القوية صناعيا وإداريا وعسكريا، و التي أضحت من أقوى الدول في أوربا إبان الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤م، مما أغراها لإعلان الحرب ضد فرنسا وروسيا وبريطانيا مجتمعة، واحتلال إقليم الألزاس واللورين.
ولعل تبني النظام الفيدرالي الديمقراطي في ادارة الدولة، هو ما أتاح لألمانيا أن تنهض قوية بعد هزيمتين متتاليتين، في الحربين العالميتين، الأولى ثم الثانية، بعد عام ١٩٤٥م، ثم تتوحد مع جزئها الشرقي عام ١٩٩٠م، لتصبح اليوم الإقتصاد الأقوى في أوربا، والثاني عالميا، بعد أمريكا، باحتساب دخل الفرد السنوي percapita الذي يبلغ ٥٤ ألف دولار سنويا.
السبب في هذا التفوق الألماني هو إدارتها عبر نظام حكم فيدرالي مفتوح يضم ١٦ ولاية، ويتيح لكل الولايات والأقاليم التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، عبر التآزر التنموي والتخطيط الحر اللامركزي، وديمقرطية التنمية داخل الولايات وعلى مستوى الإتحاد الفيدرالي.
تخاطب الإدارة الفيدرالية الدستورية مشكلات التنوع الثقافي والإثني والاجتماعي والتهميش الاقتصادي، وتتيح مشاركة أوسع في السلطة، وتوزيع الموارد بعدالة، وتعزيز التنمية المتوازنة. كما تتيح الإدارة الفيدرالية للأقليات الجهوية فرصة الشراكة والتمثيل من خلال الانتماء للوطن الكبير، عبر التمثيل القاعدي، على المستويات السياسية والإدارية والتنموية، ورفد الناتج الإجمالي الوطني بالعطاء المتنوع المتميز والمتخصص، الذي تمتاز به كل ولاية على امتداد جغرافيا الفسيفساء الوطنية.
المطلوب اليوم، سودانيا ووطنيا وجوبا، وبعد تجربة التمرد الممول خارجيا، والمدعوم بالمرتزقة والسلاح الأجنبي، هو التفكير خارج الصندوق الإداري الاستعماري الموروث، وتقليب النظر في تجارب إدارة الدول حولنا، وفي أفق المحيط الدولي، لكي يبنى سودان ما بعد الحرب، وطنا معبرا عن أشواق ورجاءات وآمال كل السودانيين، وتجاوز النخب الغريبة والمستغربة، المصنوعة والمفروضة، والمستقوية بالفكر والأجندة المستوردة، وبالمال الأجنبي وبالغازي المرتزق.