المفكّر والسياسي والمشروع النهضوي العربي؟
د.خالد شوكات
في التاريخ نجد أن ستالين شبه الأمّي قد نجح في إزاحة المفكر الماركسي الكبير تروتسكي الذي كان يعدّ خليفة طبيعياً لزعيم الثورة البلشفية ومؤسس الدولة السوفياتية لينين، والذي جمع في شخصيته بين التنظير الفكري والممارسة السياسية، ولو خلف تروتسكي لينين بدل ستالين لربّما كانت آفاق التجربة الشيوعية في روسيا ومجالها اختلفت تماماً فلم تسقط بعد سبعة عقود فقط من قيامها، حيث أنها انحرفت نحو التسلطية والجمود وفقدت القدرة على التجدّد والاستمرار والاستدامة.
ولا يختلف الأمر في عالمنا العربي عن هذه السيرة، فعادة ما يكون الخليفة الخطأ للزعيم المؤسس صاحب النظرية مدخلاً للشرور والتداعي والانهيار، ففي تجربة حزب البعث العربي الإشتراكي مثلاً، نجد أن الساسة الممارسين من أصول عسكرية أو ميليشياوية، قد تمكّنوا من إقصاء أصحاب النظرية، فميشيل عفلق مثلاً فرّ من قيادة حزبه في سوريا التي تمكّنت من الدولة، إلى العراق الذي كان تحت قيادة حزبه أيضاً لينتهي شبه سجين لدى نظام صدّام حسين الذي لم يتجاوز تكوينه العلمي البكالوريا، ولكّنه كان “فتوّة” يخشاه الساسة والمفكّرون معاً، وعلى هذا النحو البئيس انتهى الأمر بالبلدين إلى الأوضاع الكارثية التي نعرفها جميعاً.
ولا يختلف التقدير عندي في السودان، إذ كثيراً ما تساءلتُ ماذا لو أنصت العسكريون الذين جاءوا إلى السلطة، إلى الدكتور حسن الترابي رحمه الله، وقد كان أبرز مفكري الأمة ومجدديها، ماذا لو انصتوا له حين دعاهم بعد عشر سنوات من الحكم إلى العودة إلى ثكناتهم وعدم الاعتراض على مشروع إعادة بناء النظام على قاعدة شعبية ديمقراطية، فهل كان السودان سينقسم وهل كان سيبلغ ما بلغه اليوم، أمْ لأن السياسي القابض على مقاليد الحكم قصير النظر لا يفلح في استشراف النهايات ولهذا لا يسمع حتى يصطدم رأسه بالحائط ويقامر بكل شيء.
في تونس بلدي لم يشذّ الحال أيضاً، فقد كان بمقدور البلاد أن يختلف حظّها ومسارها لو أن خلافة الزعيم المؤسس لجمهوريتها الحبيب بورقيبة، قد جرت سنة 1987 على غير ما جرت عليه المقادير حينها، فقد كان الوريث الطبيعي المحتمل للزعيم بورقيبة هو الاستاذ محمد مزالي رحمه الله، رجل الفكر والقلم، صاحب التوجهات الديمقراطية والعروبية، لكنّ الأمر انتهى إلى ضابط أمن من جذور عسكرية، هو الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الذي أطاحت به الانتفاضة الشعبية في مطلع 2011، والذي كان محدوداً جداً في تكوينه المعرفي، فحكم البلاد بقبضة من حديد، وحوّلها تدريجياً إلى ما يشبه الثكنة، يسودها سكون المقابر، فقتل الفكر واضطهد المفكرين ومنح الأولوية للمخبرين على حساب المثقفين، ودفع في نهاية الامر ثمن ذلك باهضاً، وما تزال البلاد تعاني ويلات الإنسان المشوّه الذي صنعه حكمه الاستبدادي إلى اليوم.
إن الفجوة بين الفكر والممارسة السياسية، وبين المعرفة والسيرة العملية في جل البلدان العربية، هي أحد أهم أسباب الهوان الذي يعيشه العرب الآن جرّاء نظام رسمي لا يستند إلى مشروع نهضوي وحضاري، ولا يمتلك رؤية تنموية مستقبلية، ويتبع جرّاء عاهاته البنيوية هذه سياسات يومية ترقيعية مرّدها ضعف القيادة وإقصاء النخبة المفكّرة وفقدان البوصلة، ولا شكّ عندي في أن التصحيح يجب أن يقوم أولاً على معالجة هذه الأزمة بردّ السياسة إلى الفكر وبربط الدولة العربية بمشروع نهضوي حضاري يعيد الأمّة إلى موقعها المستحق في صناعة العالم الجديد المنشود.
- *كاتب تونسي، وزير سابق