رأي

بعيداً عن السياسة.. وقريباً من الأدب: حديقة الحقيقة.. وشريعة الطريقة

د. شمس الدين يونس

في العام 1979م و نحن بعد طلاب في عطبرة الثانوية ، كنا شغوفين بالقراءة، لا تشغلنا واتسابات و لا تكتوكات أو نقوقل لي معلومة .. نذهب للقراءة أينما حلت قصاصة ورق … بدءاً من صحيفة السر السيد (تحت الشجرة) التي يتناول فيها كل القضايا … الطلابية منها و الفقهية أو الأيديولوجية .. حتي محمود درويش من مكتبة أستاذنا عثمان السيد … وبذكر عثمان السيد ….هذا الأستاذ الرائع الذي حبب إلينا مادة التاريخ و فلسفته…فقد ظل يبتدر حصته بمناقشة إصدارته (رؤي الساعة ال 25) التي تجئ مفعمة بالشعر و الفلسفة …و الحكم و الحكايات… وقرأنا فيها ما قرأنا، و في أحد اعدادها اعجبتني (قصة الفيل و العميان الستة) … وفي بعض الروايات ثلاثة …و يقولون خمسة… رجما بالغيب…كل ما في الأمر سادتي ، ترجع أصل الحكاية إلى النص البوذي أورانا في منتصف القرن الأول قبل الميلاد…

هذا هامش لابد منه … لاستدراك حكايتنا في نهاية سبعينيات القرن العشرين…كنا في مدينة عطبرة ،حديثي العهد بالتلفزيون الذي بدأ بثه في منتصف تلك السبعينيات .. ولما لم تبدأ السكة الحديد في توزيع الأجهزة التلفازية للعاملين .. لم يكن لنا نصيب لأن أسرتي غير منتمية لتلك المؤسسة … ظللنا نتحلق حول هذا الجهاز بمركز شباب المربعات …. ونستمتع ببرنامج (في محراب الآداب و الفنون) للأستاذ بابكر الصديق و الذي يبث من ود مدني … و (المنوعات) لمتوكل كمال …. وفي برنامج المنوعات فقرة المسابقة… كانت لأجمل ما قرأت… دلفت لاصدارة أستاذ عثمان السيد (رؤي الساعة ال 25) لأستل منها قصة (العميان الستة و الفيل) لأدفع بها إلى المسابقة … يا لحسن الحظ … لقد فزت بالجائزة الأولى و سمعت اسمي و القصة من التلفاز الجائزة عشر جنيهات ..تشد لها الرحال و تضرب أكباد الإبل  من عطبرة إلى الخرطوم ..لاستلام الجائزة من مباني التلفزيون ..(فعميان) بوذا و فيلهم منحوني فرصة أن أدخل مباني التلفزيون و لم يخطر ببالي أن يكون لي علاقة من أي شكل بهذا الجهاز الذي نتحلق حوله مستمتعين ببرامجه …. وتلك حكاية أخرى لسنا بصددها في هذا المقام.

تشكل وجداننا وتفجرت طاقات الإبداع فينا وتمظهرت دلالات الأشياء…. بعيداً عن السياسة … و قريباً من الدراما وأستاذ عوض رحمة (عوض فنون) يدرسنا في حصة الفنون…. (أن ارسم الذي تراه و ليس الذي تعرفه).. (وأن لا نلبس نظارة …وننظر من خلالها)…..لندرك من حينها، أن زاوية النظر إلى الشئ هي التي تحدد حقيقته  ….فماذا تحكي لنا قصة( العميان و الفيل )…

إذ قيل أن هناك ستة عميان علموا أن هناك فيلاً ضخماً سوف يؤتي به إلى المدينة، فذهبوا إلى الحاكم و طلبوا منه أن يتعرفوا علي الفيل فهم دائماً ما يسمعون عنه.. ولم تسعفهم المخيلة من وضع تصور لهذا الفيل … وفي يوم الاحتفال سمح للعميان بتحسس الفيل و التعرف عليه …لمس الأول زيل الفيل فقال. .. إن هذا الفيل حبل..

لمس الثاني جسم الفيل فقال… إن هذا الفيل حائط جليل ..

لمس الثالث ناب الفيل فقال إن هذا الفيل حربة

لمس الرابع خرطوم الفيل فأعلن …  أن هذا الفيل ثعبان بدين غير سام …أما الخامس فسخر منهم جميعاً…فقال إن هذا الفيل مروحة لما لمس اذن الفيل …فضحك السادس مقهقهاً و ساخراً وقال يبدو أنكم لمستم شيئا غير الفيل …فلمس رجل الفيل … و قال مبتسما ماهذا الفيل غير جزع شجرة.

كل واحد من العميان كان صادقاً في وصفه ….إذ لمس جزءاً من الحقيقة …لكنهم لم يتريثوا ليعرفوا الحقيقة كاملة .. فالحرب ليست هي الحرب نفسها إذا جرت بعيدا عنا….ليست هي الحرب عند من يعيش أهوالها…ليست هي الحرب عند طفل يلهو بألعابه…استميحكم عذراً في الاستطراد… سأل  طفلي أمه ..(سماح) …. أن متى تنتهي الحرب ؟؟ لنذهب إلى  منزلنا لنحضر عجلتي فقد نسيناها هناك،  فأسقط في يدها… فالحرب ليست هي الحرب عند جندي في خضم المعركة ..وليست هي الحرب التي يخطب عنها السياسي في حشد ما.. لم يعد ثمة وجود لحقائق ثابتة.. مطلقة؛ إنما كل الحقائق كما تراءت للعميان…

يا للهول…. ليتني لم أنل  تلك الجائزة… ربما أسكت.

الحرب …و رحم الله شاعر اليمن البردوني حين قال وهو الأعمى و ذو البصيرة:   (فظيع جهل ما يجري و أفظع منه أن تدري …)  و تأمل في الحقيقة  حتي فتح له ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى