تعزيز الإرادات وهموم سودانيّي الشتات
د. حسن عيسى الطالب
استضافت مجموعة ثقافية من سودانيي المهجر بولاية كاليفورنيا الأمريكية البروفيسور إبراهيم غندور خلال الأسبوع المنصرم؛ وجرى الحوار في مواضيع ذات اهتمام بالنسبة لكل السودانيين؛ ومنها آراؤه بشأن انهاء الحرب الدائرة منذ أبريل 2023م والتي أشعلها تمرد مدعوم خارجيا، ومسنود بعمالة ارتزاقية، وتآمر عاق من بعض السياسيين الطامعين، للتسلط وتسلق هرم الحكم بأي ثمن؛ بمعية أتباعهم من مثقافاتية الشتات، الذين ارتضوا لأنفسهم لعب دور المثقفاتية السماسرة Comprador Intellectuals وهو مصطلح استحدثه البروفيسور قابريال آندرادي، فاستمده من وصف السمسار التجاري في منطقة جنوب شرقي آسيا في القرن الثامن عشر وما بعده. من تلقاء سلوك التجار المحليين الذين تآمروا مع طلائع الاستعمار الاستكشافية، فكانوا أدلة لاستعمار بلدانهم من قبل الأوربيين، وخاصة في الصين التي ذاقت أبشع أنواع الاستعمار، الذي لم يكتف بسرقة الموارد، بل بتدمير الشعب بأكمله، عبر شيوع تجارة المخدرات، وتخدير كل الشعب عبر تشجيع تناولها والمتاجرة فيها.
بروفيسور إبراهيم غندور شخصية غنية عن التعريف، ولكن يتعين علينا التعريف به، من تلقاء أن المولى عز وجل، وهو أغنى الأغنياء عن التعريف، عرّف نفسه لخلقه فقال: ” إنني أنا الله لا إله إلا أنا” الآية 14 – سورة طـه – فقد كان مديرا لجامعة الخرطوم؛ ورئيساً لإتحاد عمال عموم أفريقيا؛ ونائباً منتخبا بالمجلس الوطني لدورتين متتاليتين؛ ثم أنهى ولايته الوظيفته الرسمية وزيرا بالخارجية خلال الفترة من 2015- 2018م؛ وقد تقدم باستقالته من الوزارة بعد أن عرض خطة لإصلاح الوزارة والدبلوماسية السودانية، فلم تجد القبول من النافذين على الأمور.
أهم ما ذكره غندور في تلكم المقابلة، التي عبرت عن اهتمام السودانيين داخليا وخارجيا، ولكن بالأخص في أوساط سوادانيي الشتات، الذين أصبحوا يتحملون هموم المعايش اليومية، ويتقاسمون رواتبهم مع أهلهم، الذين طردوا من منازلهم تحت تهديد السلاح، وهُجّروا قسرا، ونزحوا رهباً، وتشردوا بأطراف الأرض؛ أو الآخرين من غيرهم الذين ظلوا هائمين على وجوههم في أنحاء البلاد، ويتعرضون للنهب والاغتصاب والموت، الذي رأوه ماثلا في كل ركن وطرف من أطراف بلادهم التي ضاقت أرضها عليهم.
ولعل من أهم الأسئلة التي وجهت للبروف غندور كانت حول سلوك حزب المؤتمر الوطني، الذي كلف البروف غندور برئاسته، بعد إعلان اللجنة الأمنية للشعب السوداني، عبر التلفزيون القومي، والتي كان على رأسها الفريق عوض أبنعوف في أبريل 2019م، تحفظها على رئيس الدولة المشير عمر البشير، في مكان آمن بعد أن خلعته من الحكم، واستلامها السلطة؛ ثم دلفت البلاد الى مرحلة الحكومة الانتقالية ورئيس الوزراء د عبدالله حمدوك في يناير 2022م الذي تقاسم السلطة فيها بين العسكر وقادة الانتفاضة الشعبية، التي تهافتت لاستلام السلطة بتلك الصورة غير المسبوقة في تاريخ السودان السياسي وسلوك الثورات الشعبية الخالصة منذ أكتوبر 1964م وأبريل 1985م.
وحول سؤال بروف غندور ما إذا كان سيشارك حزبه ( المؤتمر الوطني) في حكومة الفترة الانتقالية، التي يتوقع تشكيلها بعيد تطهير البلاد من التمرد، لا سيما بعد فيوض الانتفاضة الشعبية العفوية، فيما عرف بالمقاومة الشعبية المسلحة، التي انتظمت البلاد طولاً وعرضاً دفاعا عن الأرض والعرض، وعندما أصبح المواطن السوداني وممتلكاته وعرضه هو المستهدف من قبل التمرد المرتزق؛ فلم يعد الأمر خلافا سياسيا، ولا أطماعا شخصية بين جنرالين يريدان أن يحكمان بالقوة الجبرية، كما كان يشاع ويقال. فهذا تبسيط بخيس، قصد به استغفال الشعب السوداني، ليظل متفرجاً على معركة شُبهت له كالمصارعة الأمريكية أو المصارعة الرومانية Gladiator التي يتعين أن يقتل فيها أحد المتصارعين الآخر ليعُلن بطلاً. بيد أن إجابة بروف غندور كانت تأكيده بأن الحزب لم يتم توقيف نشاطه أو محاكمته عبر القضاء، وأنه شخصيا للظلم وانتهاك حقوقه الدستورية؛ إذ ظل قرابة الثلاث سنوات حبيساً في غياهب الزنازين، من قبل النيابة إبان الفترة الانتقالية الفوضوية، دون أن توجه له أيّة تهمة، مثله مثل العشرات من مسئولي النظام السابق، الذين لم تدينهم المحاكم، ولم يتم اطلاق سراحهم؛ حتى جاء التمرد في أبريل 2023م فكسر أبواب كل السجون، وما تلى من شيوع الفوضى المخططة، التي كانت حلقة من حلقات الدمار الممنهج الذي خطط له مسبقاً لإنهاء الدولة السودانية وشعبها ومحوها من الوجود.
من أهم ما أكده بروف غندور في اللقاء آنف الذكر، أن الحزب حال قيام حكومة انتقالية وغير حزبية، فإنه سوف يدعمها ولكن لن يشارك فيها، أسوة بالأحزاب الوطنية الأخرى؛ كما أكد أنه لن يقابل زعيم التمرد، حميدتي، نظرا لأنه متمرد في نظر القانون، يحمل السلاح على الدولة ويقاتل جيشها الوطني؛ وأن أي حوار بشأنه يتعين أن يكون وقفاً على الجيش؛ فضلا عن كون حميدتي يظل ملزما أمام القانون والدستور بالامتثال للنظام المؤسس للقوات التي يترأسها ومنذ العام 2017م والذي يضعها تحت إمرة القائد العام للجيش الوطني. ولكن بروف غندور أكد أنه لا مانع لديه من حيث المبدأ من مقابلة مستشاري المتمردين طالما أن وقف الحرب وتحقيق الاستقرار هو هدف يتعين أن يطّلع به كل سوداني.
من المسائل الأخرى التي تطرق لها اللقاء وحملت هموم كافة السودانيين هو التصور المستقبلي لمسار البلاد لدى بروف غندور؛ فذكر أنه يرى بعد انهاء الحرب ضرورة اجراء عمليات إعادة الإعمار وتوطين النازحين واللاجئين والتعويضات لضحايا الحرب واجراء المحاكمات العادلة لكل من انتهك القانون والدستور.
هذه الهموم التي خاطب بها السودانيون في ولاية كاليفورنيا الأمريكية أحد السياسيين الوطنيين ورجال الدولة البارزين، والمحسوبين على المثقفين الوطنيين، وممن لهم رؤية غير متأثرة بالإقصاء الأيدولوجي، والمرارات الشخصية، أو تصفية الحسابات الجهوية، أو تعظيم الذات، خلافاً لما رأي الشعب السوداني ووثّق على شاشات التلفاز والوسائط الاجتماعية، وفي كافة المحليات والولايات، إبان سني التيه السياسي، والتخبط الإداري، الذي غرقت فيه البلاد منذ أبريل 2019م فأفضى كنتيجة حتمية الى الحرب المدفوعة الثمن، التي لا يزال الوطن يعاني من جراحها ويتألم من ضجيج وأنّات ضحاياها من المغتصبين والموتى والجرحى والنازحين والمهجرين.
يُحمد للسودانيين عموماً أنهم ومنذ بروز دولتهم الحديثة لمرحلة ما بعد الاستعمار في 1899م وإبان مرحلة الاستقلال، الذي سبقته حكومة التجربة الانتقالية الديمقراطية التي تشكلت عام 1953م وكان المطلوب حينها وطنياً الاتفاق على قرار قومي يمثل الشعب السوداني، يتخذه الحزبان الكبيران آنذاك، وهما الحزب الوطني الإتحادي بقيادة السيد على الميرغني، وحزب الأمة بقيادة السيد عبدالرحمن المهدي؛ وكان الانقسام حينها حادا بين من يرغبون في الإتحاد مع مصر، ومع من يريدون السودان المستقل الذي يقوده السودانيون، وتكون له علاقة الأخوة والجيرة والندّية – لا التبعية – مع الجارة مصر. وعندما احتدم الصراع، وكان لا بد من اتخاذ قرار تنفذه حكومة الحكم الثنائي – التي كانت تستعمر البلاد ثنائياً (مصر وانجلترا)؛ وجاء هذا الأمر بعيد الغاء الملكية في مصر، وقيام ثورة يوليو 1952م بقيادة جمال عبدالناصر، والتي كانت شعاراتها تدعو للتحرر من الأنظمة المرتبطة بالاستعمار والتبعية للغرب، وتحمل أجندة إصلاحية قومية، منها التحرر من تبعات الإستعمار وتركته الثقيلة على الشعوب. في ظل هذا الانقسام بين الشعب السوداني، اجتمع السيدان الكبيران بتاريخ 12 ديسمبر 1955 وقرررا أن يتم اعلان السودان حرا مستقلا من داخل البرلمان. فكان أن تقدم بالمقترح النائب عبدالرحمن دبكة، من حزب الأمة بالمقترح، وتمت تثنيته من النائب مشاور جمعة سهل نائب دار حامد، وهو من الحزب الوطني الإتحادي. وبالتالي حصل الاتفاق القومي على الاستقلال الذي أعلن من داخل البرلمان، بإجماع الشعب السوداني عبر ممثليه المنتخبين. ثم تلا ذلك رفع العلم الوطني من قبل الرئيس إسماعيل الأزهري، والإعلان الرسمي للإستقلال من قبل دولتي الاحتلال. وهنا يتعين أن يراجع السودانيون تاريخ الاستقلال ليكون يوم 19 ديسمبر بدلا من أول يناير؛ وذلك لأن القرار السيادي الذي اتخذه البرلمان الممثل للشعب السوداني هو الذي يتعين التقيّد به، لا الورقة المؤرخة في الأول من يناير التي وقع عليها ممثلا الاحتلال الثنائي.
استناداً على هذه الواقعة التاريخية الهادية، يتعين على السودانيين اليوم التفكر والرجوع الى تاريخهم وترجيح صوت العقل، والتأكيد بأنه يتعين عليهم أن تكون لهم دولة مستقرة؛ وأن ذلك لن يكون إلا عبر التوافق المبني على الاحترام المتبادل، والتشاور العريض، والتراضي وقبول الآخر، ورفض كل ضروب ومحاولات الإقصاء، وإشباع رغبات الأنا وتعظيم الذوات الفانية ليبقى الوطن. وأنه لن تكون أية دولة في العالم مهتمة بأمرهم أكثر منهم.
ولكن هذا لا ينبغي أن يتم إلا عبر ترسيخ العدالة الشاملة، التي يجب أن تترك للقضاء وحده، لا للأحزاب والآراء الشخصية والأيدلوجيا. ثم أنه يجب التوضيح أنه لا يتقلد أمور السودانيين إلا السودانيون، الذين ينتمون للوطن أولاً وآخراً، واسماً ورسماً، مستقلين عن الولاء المزدوج، كحملة الجوازات الأجنبية. فلا يمكن أن يكون الوزير أو رئيس الوزراء أو رأس الدولة أو مدير عام الوزارة أو المنتسبين لها من حملة الجنسية غير السودانية. فعلى من يتشرف لهذه المناصب أن يختار بين الولاء الكامل للسودان أو الحفاظ على وضعه المميز الذي اختاره طوعاً.
كذلك يتعين أن تطّلع الفترة الانتقالية بأولوية إعادة الإعمار والتعاون الشامل مع الدول الصديقة والشقيقة في ذلك؛ كما يتعين ترتيب البيت من الداخل؛ بالعمل عبر الكفاءات في كل الوزارات والخدمة المدنية، والاستعانة بكل الخبرات السودانية داخليا وخارجيا، وتفعيل العلاقات الدبلوماسية الثنائية مع كافة الدولة الشقيقية والصديقة، وتجريم خطاب الكراهية والإقصاء وتفريق السودانيين وتقسيم المجتمع الى فئات يستضعف بعضها بعضا وتشتيت الجهود في ملهاة البكائيات والتراشقات اللفظية، فلكل سوداني له حقوق وواجبات، مهما اختلفت آراؤه وشذّت أفكاره، وأن حكم القانون هو مسئولية القضاء حصرياً وليس لأي من كان حق الحكم على أي سوداني إلا من خلال تلكم النافذة.
بعد تلك الخطوة البنائية الضرورية تأتي مرحلة الإنتخابات الشاملة؛ والتي يجب أن تكون شاملة وحرة ونزيهة وتتأكد مراقبتها على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية ؛وهي مرحلة يطّلع الجيش السوداني المسنود بالمقاومة الشعبية المسلحة بالتأكيد على تأمينها وحمايتها وفق الدستور؛ ليختار الشعب عبرها من يحكمه.
فالسودان ليس بدعاً في هذا المنهج وهذا المضمار التاريخي لمسيرة الدول؛ فلقد سبقته في هذا الطريق دول تعثرت مسيراتها في التحول وتعزيز الديمقرطية في بادئ الأمر، ولكنها استوثقت لمستقبلها، فمضت في طريق الحكم الراشد والديمقراطية والاستقرار وسيادة حكم القانون. هذا هو المسار الذي سبقت فيه السودان دول مثل البرازيل خلال الفترة (1964-1985) وإسبانيا في حكومة الجنرال فرانكو (1936- 1975 وفي شيلي إبان حقبة الجنرال بينوشيه الذي قاد حكومة انقلابية عقب اغتيال الرئيس سلفادور اللندي خلال الفترة (1973-1990) وكذا الحال في البرتغال (1974-1976) ) وفي أفريقيا تظل تجربة نيجيريا ( 1966-1999) التي أنهاها الجنرال أوباسانجو بالتحول الديمقراطي. فقادة الجيش في السودان يمكن أن يكونوا مثل اوباسانجو وأفضل؛ لا سيما أن تجربة المشير عبدالرحمن سوار الدهب تظل نبراساً يضيء مسيرة الجيش السوداني ويضيْ تاريخه الوطني في حماية الدستور والنزول عند رأي الشعب واحترام سيادته.
علينا أن نأتي الحكمة بالعزم الأكيد، وتحديد الوجهة وخارطة الطريق بحيث يتم خلق إرادة وطنية قاصدة؛ فحيثما تكون إرادة يتتحقق الإنجاز. وجماع وخلاصة كل ذلك الحديث الشريف: ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”.
فهلا تصفو النوايا والإرادات الوطنية وتتآزر لتحقيق الاإنجازات المرجوة، واستكمال المشروعات المنتظرة لبناء وطن حر مستقل ومتطور اقتصاديا وصناعيا وتكولوجيا، يهدف الجميع لتحقيقه ليكون سيداً و مجيدا، وبأفضل مما كان؟.