تقرير المندوب الأمريكي بيرييلو ومرئيات د. أمين حسن عمر

د. حسن عيسى الطالب
برنامج ” أثير” بقناة الجزيرة، استضاف مؤخراً الدكتور أمين حسن عمر، المفكر السوداني المعروف والوزير السابق في حكومة الإنقاذ، فقدم تحليلاً دقيقاً وواقعياً لما جرى ويجري في السودان والمنطقة من وجهة نظره.
ويعتبر الدكتور أمين من المفكرين الإسلاميين وفلاسفة الفقه السياسي المعاصر المعدودين في العالم العربي والأفريقي والإسلامي؛ إذ يجمع بين الخبرة العملية، والممارسة المهنية، والمعرفة السياسية في دواوين الدولة الحديثة، فضلاً عن كفاءاته الأكاديمية، حيث تخرج في جامعة الخرطوم في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم. فما أفاد به بشأن مواقف الإسلاميين عموماً والحركة الإسلامية السودانية خصوصاً وتحليله للواقع الراهن، ورؤيته لمآلات الأوضاع بالبلاد، وبالأخص قطعه بأن الحركة الإسلامية لن تشارك في أي حكومة قادمة إلا عبر الانتخابات الشاملة، وأن الحركة ظلت تعالج مشكلة الرأي العام السلبي نحوها خلال الفترة التي تلت أبريل 2019م، وأنها ربما استطاعت تجاوز ذلك ومحو النقد ووجهات النظر السالبة إزاءها بتقديم أرتال الشهداء، ومحو عار اغتصاب الحرائر والإرتزاق والعمالمة للأجنبي من بعض النخب، ووقف النهب الذي تتعرض له البلاد، عالجت ذلك ببذلها دماء شبابها وشيبها نساءاً ورجالاً، دون مَن ولا تباهٍ على الشعب الذين اكتووا بذات النيران والمآسي التي يتعرض لها.
وتمثل مرئيات د. أمين خارطة طريق مهمة يتعين الإطلاع عليها من كل السودانيين، باعتبار أن آراءه تمثل قطاعات واسعة، لا يمكن الاستهانة بخطرها ولا مواقعها في خارطة العمل السياسي والمهني في البلاد. ولا شك أن الدبلوماسيين في الداخل والخارج، وممثلي ومبعوثي الدول والحكومات المختلفة، سوف يأخذون هذه المرئيات والإفادات بإهتمام بالغ، لتوجيه وتعديل إحداثيات سياستهم وخططهم بشأن السودان، لا سيما أن الحرب الدائرة في البلاد اليوم أضحت تحظى بإهتمام متزايد في كل دول العالم. ففي الكونغرس الأمريكي، تم استدعاء المندوب الأمريكي الرئاسي الخاص، المستر توماس بيرييلو، نهاية الأسبوع الماضي، لتقديم ملاحظات وتوصيات إلى مجلس الشيوخ ولجانه المختصة، حول كيفية التعامل مع الأوضاع في السودان. فكان من أهم ما ورد بتقريره أن دعم الجيش السوداني أضحى يمثل الحل المجمع عليه من غالبية السودانيين، بما في ذلك المغتربين، وأن التعامل مع الجيش باعتباره مؤسسة قومية دستورية، يصبح ضرورة سياسية وعملية لتحقيق الإستقرار، ووقف الانتهاكات، وإرساء حكم القانون، قبيل التوجه للإنتخابات.
وأوصى بيرييلو في تقريره بأن يتم الفصل بين ما هو أمني وعسكري وبين ما هو سياسي في الحالة السودانية. وأن تكون الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة تحقيق الأمن في كافة ربوع البلاد، وخاصة دارفور، ووقف الانتهاكات المريعة من الميليشيا، وتطبيق العدالة الانتقالية، ثم التوجه لإنتخابات شاملة وشفافة يختار عبرها الشعب السوداني من يمثله.
بهذا الطرح يعتبر المندوب الرئاسي الخاص، الذي كان عضواً سابقاً بمجلس الشيوخ، من أكثر المندوبين الأميركيين ملامسة للواقع السوداني، وذلك بعدم تسييسه لموضوع التمرد كما كان يفعل من قبله، وكما كان يفعل بيرتيز فولكر، مندوب أمين عام الأمم المتحدة، الذين كانوا يلجأون للناشطين واستشارتهم واستكتابهم مثل هذه التقارير، وذلك وفقا لإفادة وزير الدولة السابق بالخارجية في عهد د حمدوك، السيد عمر قمر الدين، الذي قال إنه كان من ضمن من أوعز للكونغرس الأمريكي باتخاذ العقوبات على حكومة الإنقاد، في التسعينيات وما بعدها. ولعل ما دعا بيرييلو لتقديم مثل هذه التوصية التي تؤكد على أهمية ودور الجيش السوداني في الحل، يرجع للنفرة الشعبية الشاملة التي انتظمت كل السودان، ومساندة الجيش، والتي تخطط لاستنفار مئات الآلاف أو حتى الملايين ليكونوا نواة لإحتياطي قومي على مدى الزمن، وكذلك لعمل بيرييلو في السابق في منطقة البحيرات العظمى وتقديم نصائح لحكومة الرئيس باراك أوباما بشأن الوضع في الكنغو الديمقراطية، الذي كان وما يزال يشهد تمرداً مشابها لما في السودان، وتتهم حكومة رواندا بدعم متمردين ومرتزقة تابعين لحركات تقاتل في الكنغو الديمقراطية، وتحتل بعض المناجم فيها.
ومن خلال تلك التجربة تعرف بيرييلو على دور الجيش الوطني في أفريقيا، وما يمكن أن تحدثه الميليشيات المتمردة على سلطة الدولة من دمار وفوضى قانونية وإنسانية، وفي أية دولة تبتلى بها. يتعين أن تتخذ حكومة السودان ممثلة في وزارة الخارجية ومجلس السيادة، خطوات عملية ومسؤولة بشأن ما ورد في هذا التقرير، الذي سوف يحال لوزارة الخارجية الأمريكية لترجمته لخطط عمل وبرامج، وعلى مجلس السيادة أن يستبق ذلك بتحليل ودراسة التقرير لرسم خطة عمل واضحة لادارة البلاد خلال المرحلة الحالية والتالية، وما بعد التطهير الكلي من التمرد، ويتعين تنوير الشعب السوداني بهذه الخطوة، حتى تكون إدارة البلاد شاملة ومهنية وشفافة، وليس فقط عبر قرارات تعيين الولاة، واستبدال المناصب الوزارية، الذي لن يجدي في غياب خطة استراتيجية شاملة وخارطة طريق واضحة يسير على هديها كل مسئول. بل يتعين أن تشكل حكومة مهام بأعجل ما يتيسر، وبعد مرور عام كامل من التمرد المرتزق وميليشيات النهب والاغتصاب والتدمير. وتتكون مثل هذه الحكومات الانتقالية الاحترافية، حسب تجارب الدول التي مرت بأوضاع مماثلة للسودان، من خبراء مختصين في ادارة الدولة، وتكنوقراط تنفيذيين من الوطنيين غير حاملي الجوازات الأجنبية، وممن لم يسبق توجيه تهم تخل بالشرف والأمانة لشخوصهم، فضلا عن توفرهم على شهادات خبرة بمواقع عملهم السابقة في ادارة الدولة؛ وذلك للعبور الآمن والمسئول والمهني الإحترافي لمرحلة إعادة البناء، وتثبيت الاستقرار، وإرساء دولة الأمن واحترام القانون.
إن مثل هذه الحكومة الإنتقالية المحدودة المهام، يمكن أن تشكل مؤتمراً جامعاً من ممثلين من كل ولاية، يقوم بمهام جمعية شورية وتشريعية انتقالية، يتم عبر التوافق بين أعضائها تحديد موعد للإنتخابات العامة، ويتم اختيار اللجنة القومية للإنتخابات. ويتعين أن تقوم الحكومة المشكلة من التكنوقراط بمخاطبة المجتمع الدولي، وتكون مسؤولة لدى مجلس السيادة وتراقب من قبل الجمعية الشورية التشريعية الانتقالية، ومن تلقاء ذلكم يترك الجيش الوطني ليقوم بمهام الدفاع والتأمين المنصوص عليها في الدستور وبوصفة مؤسسة قومية متوافق عليها، فضلا عن مهام إعادة الإعمار عبر سلاح المهندسين في المناطق التي يتم تطهيرها خلال المرحلة الانتقالية. هذا ما يتعين القيام به وهذا واجب مجلس السيادة وهذا المطلوب سودانيا اليوم.