رأي

ثورة 23 يوليو والأمن القومي المشترك

د. حسن عيسى الطالب

نزجي التهنئة لحكومة وشعب مصر الشقيق، بمناسبة حلول ذكرى ثورة 23 يوليو 1952م والتي مثلت مرحلة انطلاق شرارة التغيير السياسي، والتطور الاجتماعي وبناء الدولة الحديثة، وذلك على مستوى الدولة في كل المنطقة العربية والأفريقية، لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) وبانتظام العالم في هيكلة دولية جديدة، وتغيير التراتبية الدولية، فأصبح دستور المرحلة الحاكم هو ميثاق منظمة الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتأكد الاستعلاء الأمريكي، الذي أزاح بريطانيا العظمى من مسرح الفعل العالمي، بعد هزيمة هتلر، وموسوليني، والجيش الياباني. فأصبح الدولار، والبنك الدولي، وصندوق النقد، ومحكمة العدل الدولية، والجمعية العامة، ومجلس الأمن، هي الهياكل المستحدثة للنظام العالمي الجديد، وأسدل الستار على مرحلة ما بعد مؤتمر فينا 1814م ونقاط ويلسون الأربع عشرة، التي وضعت مسودة هذا الهيكل عام 1918م وخططت على أساسه النظام الدولي، من لدن “عصبة الأمم” وعندما كانت بروسيا والنمسا وروسيا وبريطانيا هي الدول التي كانت تتصدر مسرح العالم وقتئذ.
كذلك كان من ثمار قيام ثورة يوليو إنهاء نظام الخديوية في مصر، وأفضى ذلك لتشكيل الحكومة الانتقالية في السودان عام 1953م ووقوف قادة الثورة بجانب استقلال السودان.
فالمأمول أن تتطور أطر التكامل الثنائي الاقتصادي والأمني بين البلدين الشقيقين، وأن تقف مصر الرسمية بجانب السودان عسكريا وأمنيا في محنته الحالية، ليتخلص مما يتعرض له من حملة ممنهجة لاجتثاثه من الوجود، ولوقف حشد وجلب الجنود المرتزقة، والأسلحة الممولة خارجيا، للنيل من سيادته القومية، وتفتيت وحدة ترابه الوطني.
فما يجري في السودان ليس قتالا بين جنرالين يريدان السيطرة على الحكم، كما تروج ابواق العمالة والمكر الاستعماري.
فقد جرب شعب السودان الإنقلابات منذ نوفمبر 1958م وفي مايو 1969م وفي يونيو 1989م، فعندما يحدث انقلاب فإن الشعب يعلمه ويعرف كيف يتعامل معه.
ولكن ما جرى بعد 15 أبريل 2023م لم يكن إنقلابا عسكريا، بل كان استئصالا أجنبيا، واستهدافا وجوديا، للنيل من الوطن، ونفي أهله، وتدمير مكتسباته ومقدراته، وكل مكوناته.
ومن تلقاء هذه التجربة القاسية، التي ليس لها مثل، لا فيما جرى في اليمن، ولا فيما يجري في ليبيا ولا حتى في سوريا، في بشاعتها ووحشيتها وبربريتها.
فتداعيات هذه المؤامرة تتطلب من مصر الرسمية أخذ الحذر، وترقب آثار الدواهي التي تصيب أهل السواهي، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
والنار المؤججة اليوم لحرق السودان إن تركت ستحرق مصر، لا محالة، فالمستهدف كل المنطقة، ومن يؤججها هو من يرسم خطوط سيرها، فلا يهمه دمار السودان ولا زوال مصر.
إن انفراط الأمن القومي في السودان يمثل في الواقع تهديدا مباشرا لمصر، وذلك عبر التاريخ، ومنذ أيام الممالك النوبية والممالك الفرعونية، مما يدلل على تكامل استراتيجية الأمن القومي للبلدين ومنذ فجر التاريخ.
فقد استجاب السودان بدفع مستحقات وواجبات الجوار، وشرف الدفاع المشترك، عندما وقف بجانب مصر الجارة الشقيقة، إبان تعرضها للعدوان الصهيوني الغادر في يونيو 1976م. فتحولت كل أرض السودان، وسلاحه ومطاراته، امتدادا لتراب مصر، وأصبح جيشه الوطني يعمل يدا بيد مع أشقائه في الجوار، وظل الجيش السوداني مرابطا في قناة السويس، وحتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي.
ثم لما تنادت شعوب العرب والمسلمين وأحرار العالم لنجدة مصر، وتحرير فلسطين، كانت أرض السودان هي منصة إنطلاق الوحدة العربية، والوفاق الدفاعي المشترك، وتم ذلك بمبادرة السودان، وأبرم الصلح السياسي في الخرطوم بين العاهل السعودي فيصل بن عبدالعزيز والرئيس جمال عبدالناصر، مما مهد للنصر المؤزر لمصر في حرب التحرير في رمضان/أكتوبر 1973م.
فلم يتخل وقتها السودان عن مصر ونجدتها والوقوف بجانبها، حتى قطفت ثمار نصرها عبر اتفاقيات كامب ديفيد، التي ضمنت لها إرجاع كل الأراضي التي احتلتها الدولة الصهيونية، وتم ذلك في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي كان من أكثر رؤساء مصر انفتاحا وإيمانا بالتكامل الاقتصادي السياسي بين البلدين.
فكل ذلك كان نتاجا للجهد التوافقي، والحشد السياسي، والتخطيط المشترك، الذي جرى في الخرطوم – عاصمة اللاءات الثلاث – في 29 أغسطس 1967م.
كان ذلك من بر الخرطوم، التي بوركت في الأرض من قبل، بهبوط أبو البشرية، آدم عليه السلام، الذي بنى فيها بيت سكناه، بعد هبوطه الأرض، كما تذكر الآثار التاريخية من العهود السالفة، فأصبحت بذلك الإرث البشري الأبوي، ملاذا حاضنا لكل أبنائه من بعده، وفيها استقر حام بن نوح، وولده كوش، الذي تنتمي وتسمى به الممالك النوبية؛ ومن كوش بن حام أمنا هاجر زوج إبراهيم الخليل، وهي أم إسماعيل، عليهم السلام.
آن الأوان لكي يرتقي التعاون المشترك بين البلدين الشقيقين لمرحلة التكامل الاقتصادي، والدفاعي، والأمن الإستراتيجي المشترك.
فالتهديد الخارجي على السودان هو اعتداء سافر، وغير مسبوق، ويحتاج لنصير خارجي مشترك لدفعه، ويتوثق ذلك بموجب ميثاق الأمم المتحدة. كما جاء الأمر من قبل في عقيدة المسلمين: “وإن استنصروكم فعليكم النصر..”..الآية 72 – الأنفال.
فقد ظل السودانيون يتعرضون لظلم ذوي القربى، وجفاء الأصدقاء المتوهمين والمحتملين، منذ وقوع هذا العدوان الغادر على وطنهم، فأصبح لسان حالهم يردد مع المثقب العبدي، عندما استنجد بإبن عمه، فتثاقل عنه حتى قال فيه أبياته العاتبة الثاقبة:-
فإما أن تكون أخي بحق
فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدوا
أتقيك وتتقيني..
فليس مقبولا ولا محريا من الأشقاء، والجيران ذوي القربى، وشركاء العقيدة والرحم، أن يتخلوا عن السودان في ساعة العسرة، ويرغبوا بأنفسهم عن جارهم، الذي يتعرض للخسف والعدوان، من مرتزقة الشتات، وشذاذ الآفاق، الذين يتربصون بهم قتلا وذبحا واغتصابا، وبموارد بلدهم ومؤسساتها تدميرا وحرقا، ويجري كل ذلك بدليل قاطع، وبالتواطؤ مع الأجنبي الغريب والعميل المريب.
بيد أن عديد السودانيين لا ينفكون يلهجون بالثناء والتقدير للرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي ذكر شعبه بجيرة وقربى أهل السودان، بعد ما واساهم في مصابهم.
غير أننا نطمح اليوم في تطوير علاقات مؤسسية، تتنامى وتسمو فوق المشاعر الإنسانية، التي فرضتها ظروف الجوار على أهل مصر، فآثروا من لجأ اليهم على أنفسهم، رغم الخصاصة، ورغم ما ظلوا يرفدون به أهل غزة، المذبوحون بالظلم الصهيوني، والتآمر العنصري، والحقد الصليبي الواقع عليهم من داعمي الإحتلال. وهم ممن تتعين نصرتهم شرعا على أهل الملة وعلى قربى الرحم الآدمية.
حفظ الله مصر وشعبها، وأمن السودان ووفق أهله للرشد، وأن يكف عنهم أيدي الظالمين، وينصرهم على البغاة المفسدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى