رأي

جدل المرجعية الدستورية للفترة الإنتقالية التأسيسية

دكتور عبد الرحمن السلمابي

 

من الواضح في الساحة السياسية السودانية بأن هنالك شبه إجماع أو حتى قبول عام الآن برز من خلال العديد من المبادرات السياسية الوطنية باعتبار أن تكون الفترة الإنتقالية الماثلة والقادمة بعد طي ملف الحرب والقضاء على تمرد الدعم السريع باعتبارها فترة إنتقالية تأسيسية لسودان سياسي ديمقراطي جديد ..

فالبعض منهم مثلاً إقترح قيام منصة التأسيس الوطنية وفق مبادرة معلومة كمجلس يضم الحكماء و القامات الوطنية المستقلة بغرض أن يكون كمجلس للحل و العقد أو للأعيان و القادة الوطنيين للعمل على فك الإحتقان السياسي الماثل و الناتج من مآلات التطاحن و التشاكس الحزبي الذي أفرز الإنشقاقات و الصراعات المسلحة بدوافع فرض السيطرة الأحادية الإقصائية على سدة الحكم حتى و لو بالتحالف مع قوات متمردة على شرعية القوات المسلحة حادت عن الرحمن وصارت تمجد شيطان الحروب و الدمار و النهب والسرقة و كل مؤبقات الجرائم ضد الإنسانية.

و قد يشير ذلك بوضوح إلى عجز بعض النخب السياسية ومن ضمنهم منسوبي تحالف قوى الحرية و التغيير (قحت) و المنشطر الى قحت (1) و قحت (2) من الإستمرار في الحكم الإنتقالي المدني السلمي الائتلافي بينهم، وكذلك عجزت بوضوح قحت (1) جماعة المجلس المركزي من اتباع سياسة الحكمة كنعمة ربانية متاحة واستبدالها بنقمة سياسة كسر العظم المسلح و إسترجال الحلول بالسنون بدلا من العقول …

و بالطبع سوف تعود عليهم مغامرتهم السياسية بالخسران لكل مكتسبات شرعيتهم الشعبية من واقع سير و مآلات الحرب التي صارت ضد كل الشعب السوداني …

أما النخب السياسية التي تقف مع شرعية القوات المسلحة لدحرها القوات المتمردة و حقها الحصري في المحافظة على كيان الدولة و حماية الشعب من العدوان فقد اتفقت على فكرة و منظومة *المرحلة التأسيسة الإنتقالية* … و لكن ربما صار هنالك جدل مكتوم أو معلوم بينهم حول الشرعية الدستورية التي تقود تلك المرحلة … فمجموعة مبادرة منصة التأسيس الوطنية تبنت مسألة المدارسة و المفاكرة للتوافق عبر الحوار السوداني / سوداني لوضع أو اختيار الدستور المناسب للمرحلة … بينما جماعة وثيقة قوى ميثاق السودان التي تبنتها قحت (2) و التي توسعت بإضافة آخرين من اللاعبين السياسيين تحت مسمي قحت – الكتلة الديمقراطية …

هذه المجموعة ارتضت و اعتمدت قدسية الوثيقة الدستورية لعام 2019 و تعديل 2020 لتشمل منسوبي إتفاقية جوبا للسلام كمرجعية دستورية … و لعل التمسك بها يجعل منسوبي قحت (2) خصوصا من الموقعين على إتفاقية سلام جوبا كورثاء أصيلين لكافة تحالف قحت بعد استبعاد منسوبي قحت (2) المجلس المركزي من سدة الحكم وفق تعديلات 25 أكتوبر 2021م للوثيقة الدستورية و كذلك يقنن شرعية تمثيلهم في محاصصة الحكم في مناصبهم السياسية في مجلس السيادة والوزارات … و يعني ذلك وبوضوح تام أن لهم مصالح بينة و ذاتية للتمسك بصلاحية الوثيقة الدستورية 2019م و تعديلاتها و كذلك خصوصا في تعديلات في 202qم التي أقصت مجموعة قحت (1) المجلس المركزي الخصيمة لهم مع تكريس استمرارهم في مكتسباتهم المحاصصية …

بالطبع صراع مصالح الحكم الذاتية يقود إلى ممارسة كل مؤبقات الأقصاء السياسي المتبادل وفق لعبة الفوز بكراسي الحكم …

فكان رد فعل قحت (1) من منسوبي المجلس المركزي هو السعي نحو إبطال و إنهاء صلاحية كامل الوثيقة الدستورية شاملة لكل تعديلاتها و إستبدالها بوثيقة دستور نقابة المحامين التسييرية التي تؤطر لإتفاق سياسي “إطاري” جديد مع التمسك بشرعيته و التمترس حوله لدرجة إشعال الحرب الماثلة و لو بهدم معبد السلطة و الدولة و الوطن و تشريد مواطنيه..

و لكن مازال البعض من جماعة قحت (2) متمسك بفكره إن إلغاء كامل الوثيقة الدستورية لا يعنى بالضرورة إلغاء إتفاق سلام جوبا (المقدسة) ،،، و يشيروا إلى أن ليس هنالك ما يحتم إلغاء الإتفاق فى حالة قضت الضرورة حدوث توافق أو إتفاق على دستور إنتقالي جديد خلاف الوثيقة الدستورية…

و لكن الشواهد السياسية وفق السوابق القضائية تشير إلى أنه في حالة إعلان الرئيس و قائد القوات المسلحة قانون الطوارئ سوف يلغي الكل … حيث سبق و إن جمد إعلان قانون الطوارئ بواسطة الرئيس الأسبق المشير البشير العمل بدستور التوالي في 1999 و بل جمد كافة أعمال المجلس التشريعي المنتخب … و قد قضت المحكمة الدستورية برئاسة مولانا جلال علي لطفي بصحة الإجراءات … لذلك سماه البعض بإنقلاب العسكر على الدستور ،،، و قد سماه الجماعة المنقلب ضدهم بقيادة د. الترابي بإنقلاب الرابع من رمضان و ما تبعه من مفاصلة مشهورة و معلومة …

و قد تفرز المفاكرة و المناقشة لمبادرة منصة التأسيس الوطنية إعادة الروح لدستور 2005م و بكافة تعديلاته اللآحقة وفق منطلقات قانونية و سياسية عديدة …

و قد يحوي التحاور و المناقشات إبراز بعض المباديء القانونية المماثلة حيث قد تشير إلى أن قادة الإنقلاب العسكري في أبريل 2019م جمدوا العمل بدستور 2005م و بكل تعديلاته اللآحقة و السارية وفقه مما يعني ذلك إلغائه و صار كالعدم …

و المبدأ القانوني واضح فالذي يلغي أو يجمد العمل بالدستور السارى يمكنه نفسه إعادته و أحياء العمل به… و قد يضاف لتقوية حجج الجدال القانوني أن ذلك الدستور سبق و أن أصدرته سلطة تشريعية منتخبه من الشعب ،،، (و إن كان البعض ربما قد يقدح في ذلك ) … و لكن بالتأكيد السلطة التشريعية المنتخبة من الشعب، و إن كان شكلا، أفضل بكثير من شرعية تحالف أحزاب قحت غير المنتخبة وفق ما يعرفونه بالشرعية الثورية الفضفاضة.

لذلك قد نجد صحيحا ما يفاخر به السيد مبارك الفاضل المهدي بأنه يملك شرعية إنتخابية تفويضية من جموع شعب دائرته الإنتخابية في عام 1986م بعكس كل منسوبي تحالف قحت المتسيدين للساحة السياسية بعد الإنقلاب في 11 أبريل 2019… حيث ربما فاز القليل جدا منهم في إنتخابات الإتحادية الطلابية كما أشار سيادته…

و لكن نفس السيد مبارك المهدي وافق عبر إتفاقيات ثنائية موقعة مع حزب الأمة القومي بزعامة المرحوم الإمام الصادق المهدي للمشاركة في السلطة و العمل مع حكومة الإنقاذ وفقها و أستمر كذلك معها بإسم حزبه “الجديد” و المنشق وفق دستور 2005م و تعديلاته اللآحقة مما يعضدد من شرعية ذلك الدستور و بالتالي يجب كل ما قبله…

ثم يلاحظ أيضا أن دستور 2005 م و تعديلاته اللآحقة تم وفق مخرجات إتفاقيات دولية مشهودة بين حكومة الإنقاذ السابقة و الحركة الشعبية لتحرير السودان مع إستصحاب موافقة معظم الأحزاب السياسية السودانية عليه و المشاركة وفق المحاصصة و التمثيل النسبي الإتفاقي في السلطة السياسية بموجبه ،،، حتى آخر مكونات حكومة الوحدة الوطنية المنقلب عليها عسكريا…

فالحزب الشيوعي السوداني شارك أيضا بموجبه و نال بعض من أعضائه وظائف دستورية،،، ثم لاحقا أقام مؤتمره العام في ظله…

و كذلك حزب الأمة القومي الذي لم يشارك بإسمه مباشرة في السلطة و الذي يعتبر أكبر مكونات تحالف قحت الموحد و المنشق فيما بعد و صاحب الحق الأصيل في السلطة وفق آخر إنتخابات ديمقراطية نالها عبر التفويض الشعبي عام 1986م أجاز ، و إن كان ضمنيا، شرعية دستور 2005م و أقام بموجبه مؤتمره العام في 2009م وفقا لقانون تسجيل الأحزاب السياسية لعام 2007م الذي أصدرته نفس السلطة التشريعية و بموجب نفس الدستور ..

إتفاقية جوبا للسلام عام 2020م شأنه شأن كل الإتفاقيات التي لم تصدرها سلطات تشريعية أصيلة و منتخبه لينال كامل الإلزامية القانونية و الإستدامة المنشودة لتحقيق أهداف السلام ،،، أو حتى لم يصدر عبر توافق سياسي عريض شاملا موافقة و مباركة العديد من القوى السياسية السودانية مثلما حدث في إصدار دستور 2005م…

و لعل المقارنة قد تكاد تكون معدومة ما بين إتفاق سلام الحركة الشعبية لتحرير السودان و التي تمتلك الجيش الشعبي الموحد و بين إتفاقيات مجموعة جيوش أو مليشيات الحركات الدارفورية “الإخطبوطية” التي بلغت الآن ما يزيد عن 40 حركة حيث معظمها منشقة من حركتين أساسيتين …

و البعض منها سبق و أن وقع العديد من إتفاقيات السلام مع حكومة الإنقاذ السابقة إبتدأ من أبوجا إلى آخرها في الدوحة.

مو يلاحظ أيضا أن إتفاقية سلام جوبا في 2020 م كانت جزئية و لم تكن حتى شاملة لجلب السلام الدارفوري المستدام بدليل أنه مازال هنالك فصيل لعبدالواحد محمد نور رافعا سلاحه ضد حكومة الدولة الإنتقالية…

صحيح شكلا أن إتفاقية سلام جوبا شأنها شان كل إتفاقيات السلام الموقعة مع الأحزاب السياسية السودانية و كذلك مع بقية حركات دارفور كما في أبوجا و الدوحة و غيرهما ملزمة لحكومة الدولة السودانية لتنفيذها…

و لكن ربما مضمونا يمكن تجاوزها الأحداث السياسية مما قد يستوجب إعادة الإتفاق الرضائي حول أسس تعديلها…

إذا ما الفرق بينها و بين إتفاقية الدوحة المشهودة و بضمانات دولية و التي بموجبها أتت بالمشاركة السياسية للقادة مثل د. السيسى و د. بحر ابوقرده و د. نيام و غيرهم ممن كانوا من قادة الفصائل الدارفورية المسلحة المعارضة ؟؟؟

فإن كان لابد من القدسية فحجية إتفاقية سلام الدوحة القانونية أقوى…

متغيرات الواقع الميداني و ديناميكية السياسة تفرض اقلاه عدالة تعديلها و توسيعها لتشمل كل ما قبلها من إتفاقيات سلام دارفورية…

فوضع حرب التمرد الميداني الآن في دارفور نفسها قد يفرز واقعا جديدا يتطلب حتمية إعادة النظر فيها و في محاصصاتها في كافة المناصب الوزارية و السيادية…

و أخيرا لعل إتفاقية السلام و المصالحة المدنية الحزبية الموقعة بين كافة الأحزاب السياسية كمثال لما وقعه الحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة المرحوم الشريف زين العابدين الهندي و حكومة السودان هى أيضا إتفاقية ملزمة كما غيرها من الإتفاقيات…

و لعلنا نتفق جميعا بأن المرحلة الإنتقالية الحالية تؤسس لمرحلة سياسية جديدة و بمفاهيم حديثة تتجاوز كل تبعات الماضي و تعيد السلطة المسلوبة من الشعب له لكي يمارس كافة حقوقه السياسية عبر تطبيق الديمقراطية و إقرار التفويض الشعبي لإختيار من يحكم…

و بالتالي لابد أن نعمل سويا لإستبدال صناديق الذخائر و كل معينات الإقتتال بصنادق الإقتراع كوسيلة عادلة و سلمية لتداول السلطة … أليس كذلك…

لذلك قد يكون من أوفق الحلول لحسم الجدل القانوني حول الشرعية الدستورية لمرحلة التأسيس الإنتقالية أن يعلن القادة العسكر حالة الطوارئ و إلغاء كامل الوثيقة الدستورية مع فك تجميد دستور عام 2005 و كافة تعديلاته اللآحقة و العمل بموجبه …

و قد يلاحظ أن آخر تعديل دستوري طرأ عليه أطر لعموم إعمال مبادئ الدستور الفرنسي (البرئاسي) المختلط ما بين النظام البرلماني البريطاني و النظام الرئاسي الأمريكي … حيث من محاسنه إنه أطر لوجود رئيس (رئاسي) لحكومة الدولة يعينه و يشاركه بتناغم تام وزير أول أو رئيس لمجلس الوزراء لقيادة العمل التنفيذي وفق أسس و مبادئ و سياسات عامة متفق عليها و تجعل الرئيس في مقام (الألفة) للقيام بالمراقبة و المراجعة المستمرة، كما له كامل الحق في التعيين و الإعفاء و العزل لكافة قادة السلطة التنفيذية متى ما جادوا أو حادوا عن سياسات حكومته…

و لعل أيضا من محاسن ذلك النظام و الذي لم يفعل لدينا هو قيام المجلس الرئاسي و الذي يمكن إعادة تسميته ليصير المجلس الرئاسي “التأسيسي” أو مجلس منصة التأسيس الوطنية في حدود ١٠ الى ١٥ عضوا و ليعمل كمجلس حل و عقد متكونا من القادة الوطنيين الحكماء من الأقطاب و الأعيان و رموز المجتمع و بعض من القادة السياسيين ،،، و يعمل أيضا بمثابة مجلس تشريعي أعلى ، و ليعين الرئيس في إختيار أعضاء الحكومة المستقلة و القيام بمهام إجراء الحوار السياسي السوداني/سوداني و يساعد في إختيار أعضاء المجلس التشريعي “التأسيسي”(الأدني) من البقية منهم وفق موازنات التمثيل النسبي لكافة القوى السياسية و المجتمعية و المناطقية في حدود 50 عضوا على سبيل المثال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى