جوبا مالك علي..!
علي عسكوري
جوبا… حسناء تتبرج عند شاطئ بحر الجبل وقت الأصيل.
تغسل نهديها بدفقة أمواج تتكسر كرنيين آت من لحن تعزفه أشجار المانجو قبيل الغسق.
تغوص في أعماق النهر تبحث عن روح سلام أغرقها باخوس في أزمنة لم يكتبها التاريخ
توشوشها نسمات فاترة تداعب أشجارها فتميل.
يأتيك عبق الاستواء …
رزاز من سحب نعسى؛ ترحل مهلاً خجلاً من شمس تغرب في استحياء
يا لمدينة تحبو في صباها تستشرف سنوات نضوج قادمة
جزلى تستقبل زائرها
الكل أنيس وجليس لا يوجد غرباء
(من هرب هذه القرية من وطني! ) هذا سؤال طرحه مظفر النواب في إحدى قصائدة سيظل عالقاً نتهرب منه إمعانا لمداراة خيبتنا وفشلنا..!
عدت لمدينة جوبا بعد حوالى ستة عشر عاماً عند مشاركتي في المؤتمر العام للحركة الشعبية ما يعرف بى (الكونفنشن) الذى عقد في العام ٢٠٠٨.
عدت وجلاً، فما زالت صور خراب الحروب في تلك العقود المظلمة تطغى على الذاكرة وتحتلها تاركة غمة في النفس تطرح أسئلة شوكية: لماذا كان كل ذلك الخراب والموت وكان بوسعنا بناء الجمال والحضارة؟
هذا سؤال سنجتره ما حيينا وسنطرحه يوم يقوم الناس لرب العالمين!
إن تاريخ الإنسان في مجمله محصلة لقدرته على الخراب والتدمير، ولو صرف الإنسان على البناء معشار ما يصرفونه على الخراب والحروب لأصبحت الأرض كوكباً مختلفاً لما تبقي فيه فقير أو محتاج! لكنه الإنسان هذا الكائن اللولبي الزئبقي أكثر ما يجيده تبرير الخراب!
تلك هي طبيعة الإنسان و الصراع السرمدى بين الخير والشر، فللشر جولة من دماء و أشلاء وخراب وللخير جولات من بناء ونماء وجمال.
لقد جبلت النفوس الصغيرة على الشح واستصغار المزالق المدمرة، فهى دائماً تسعي لتبرير شحها وشططها و تغلفهما بمفاهيم وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان، والله برىء مما يفعل بنو آدم في بعضهم البعض.
تقدم هذه المدينة الصبية مثالاً رائعاً لقيمة السلام والأمن والاستقرار. أكثر من ذلك؛ تقدم الحجة لمقدرة الإنسان الأفريقي على بناء الحضارة وتكذب وتفند وتدحض الأكذوبة التى أطلقها الأوروبيون في أزمنة سالفة عن الأفارقة وأنهم لا يعرفون سوي الخراب وقتل بعضهم البعض وأن لا علاقة لهم بالحضارة والمدنية. تلك الأكذوبة التى روجوا لها لقرون تم دحضها الآن و ووريت الثري في مقبرة مهجورة. منسية عند أسفل جبل الرجاف، تخرج جوبا لسانها في اتجاهها كل صباح لتذكيرها بخطل من أطلقوها.
ورغم أن المدينة ما تزال تتخلص من تركة ماض حزين ومؤلم كما يتخلص الثعبان من جلده، إلا أن مما لاشك فيه أن الدولة والمواطنين قد أحسوا وشاهدوا وعرفوا الفرق بين الحرب والسلام فهم لا يحتاجون لنصيحة من أحد وقد خاضوا الحروب وخبروها والآن يجنون ثمار السلام وما يعنيه لهم جميعاً.
وأنا في هذا العمر، قطعا لن أعيش لنصف قرن آخر لأشهد اكتمال نضوج هذه الصبية لتصبح إحدى أكبر مدن أفريقيا أو العالم يشار لها بالبنان، ولحسن حظ أهلنا في الجنوب فقد أعطاهم الله كل ما يريدون، أنصحهم فقط بالعمل والعمل الشاق المضني فتحديات البناء ضخمة. وإن كانت الأجيال السابقة قد خاضت حرب التحرير فعبء البناء والنهضة يقع على الأجيال الحالية والقادمة وذلك تحد باستطاعتهم كسبه إن تعاهدوا على تمتين السلام وتعاهدوا على العمل الجاد المثمر الدوؤب.
سعدت كثيراً بزيارتي لجوبا وأنا أشاهد قدرات أهلي في الجنوب تتفتق لتبني وطناً طالما حلمنا به.. وطنا مملؤ أملاً وعزيمة.
فمن بين هؤلاء الصغار الذين يذهبون للمدارس ويلعبون في الطرقات سيخرج قادة عظام لأفريقيا يساهمون في نهر الحضارة الإنسانية وركبها فقد حرمتهم أسباب تاريخية مؤسفة عن المساهمة فيه.
ولأهلنا فى الجنوب… انهضوا… فنحن اليوم نحتاجكم أكثر من أي وقت مضى وسيبقى حبكم فى القلب خالداً كمجري النيل.
ولكل رفاقي في الحركة الشعبية وكل قيادات الجنوب كونوا قدر التحدي، وكما غيرتم مجرى التاريخ… عليكم تغيير مجرى الحضارة أبلغوا بدولتكم مكانها الذي تستحقه بين الأمم والشعوب فأنتم أهل لذلك.. والحضارة ليست وليدة صدفة إنما تبنى بالبصيرة الحاذقة و بالعمل الدؤوب والمثابرة والعزيمة والصبر على المصاعب والجلد وتجاوز الهنات.
ما يعزز أملي فيكم أنكم الآن تسيرون على الطريق الصحيح، ومن سار على الدرب وصل.
لكم حبي
* اسم المقال مأخوذ من اغنية شعبية معروفة