عام من الحرب: الأداء الدبلوماسي بعيون الخبراء
المحقق – مريم أبشر
أكملت حرب السودان عاماً كاملاً، راهن من ابتدرها بأنها لن تتجاوز ساعات، وها هي على أعتاب الدخول فى العام الثاني، و لاتزال تتمدد يوماً بعد يوم و تتسع كلفتها على كل الصعد السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية. فقد شُرد الملايين من المواطنين بعد أن أرغموا عنوة من قبل (مليشيا الدعم السريع) على الخروج من منازلهم نازحين بحثاً عن مناطق آمنة داخل السودان، فيما آثر آخرون الذهاب بعيداً لاجئين بدول الجوار أو باحثين عن مستقر في بلاد بعيدة.
هى حرب توقفت فيها عجلة الحياة و ارتفعت تكلفتها الإقتصادية و الإنسانية و أسهم فى ازدياد اشتعالها العامل الخارجي بتدخلاته الخبيثة وبدعمه لفصيل كان جزءاً من القوات المسلحة التى يقاتلها الآن.
حرب أثرت بشكل مباشر على علاقات السودان الخارجية، تمايزت فيها صفوف المصالح و المطامح دول كان السودان يضعها في قائمة الأشقاء و تنظيمات وضع أساس بنيانها، فيما برزت للسطح تحالفات جديدة للسودان، فى ظل هكذا أجواء ،كانت مساعي وزارة الخارجية لإدارة دفة العمل الخارجي تتأرج ما بين الإخفاق حيناً و النجاح في أحيان أخرى وفق رؤية خبراء فى الشأن الدبلوماسي.
وضع ضبابى
السياسة الخارجية في الأساس في كل العالم مسؤولية رأس الدولة، وهو الذي يضع خطها العام، وتتولى وزارة الخارجية (والأجهزة السياسية الأخرى) الإسهام في تنفيذها ووضع الدراسات وتوفير الخيارات لمتخذ القرار . كما يرى السفير و الخبير الدبلوماسى عبد الرحمن ضرار مضيفاً بأن التطورات التي شهدها السودان أدت لذوبان واختفاء جهاز الدولة تماماً، و بالتالي عدم وجود حكومة على النحو المعلوم منذ نحو عامين، حيث تمت تسمية قادة الخدمة المدنية في وضع “وزراء مكلفين” و تبع ذلك غياب قيادة سياسية تحدد خط الدولة، خاصة في مجال السياسة الخارجية، و دلل ضرار على ذلك بتأخر حسم خيار الدولة في توجيه الإتهام الصريح للإمارات لنحو عام كامل.
و يضيف ضرار فى حديثه ل (المحقق) أن الخارجية تعد أكثر الجهات التي تأثرت بغياب القيادة ( تسمية وزير، و وكيل مكلف (السفير دفع الله) ثم تسميته ممثل لرأس الدولة، ثم اختفائه فجأة، لأسباب غير معلومة وقد دارت أحاديث خلف الكواليس عن ترشيحهما سفراء، ثم تسمية وكيل جديد ، فيما لا يزال مصير الوزير المكلف غير واضح ..
و لفت ضرار إلى أن أوضح مثال للوضع الضبابي ما حدث في قمة جيبوتي، بصدور بيان رفضته الخارجية التي أحالت السفيرة في جيبوتي للتقاعد لبلوغ السن القانونية، ولم يكن في السفارة سوى سكرتير ثالث حديث عهد بالعمل.
الزمن الخطأ
ويشير ضرار إلى أن ذات الخطا أرتكب بسفارة السودان فى القاهرة على أهميتها في هذا الظرف الحرج ، بتقاعد السفير في التوقيت الخطأ حيث اضطرت الدولة لتسمية سفير على عجل ليأتي كقائم بالأعمال لسد الفراغ (الذي يبدو أنه فاجأ الدولة).
غياب الرؤية
و يعتقد الخبير الدبلوماسى أن غياب الرؤية والقيادة أقعد الخارجية عن لعب دورها، على الأقل في إطفاء الحرائق ، لافتاً إلى أن التخبط كان واضحاً إزاء مفاوضات جدة، وفي عدم حصول الوطن على أي مساندة معلنة – ولو دبلوماسية أو سياسية من أي جهة – فضلاً عن تأخر القرار بشأن خيار إعلان حالة الطوارئ أو الاستنفار ، فهو وإن كان في الأصل عمل عسكري بحت، لكن له انعكاسات واضحة على خط السياسة، والسياسة الخارجية بشكل معلوم.
وللثورة نصيب
أما السفير الخبير القانونى سراج الدين حامد فيقول إن الدبلوماسية السودانية بعد “ثورة ديسمبر” تعرضت لأصناف متنوعة من التدخلات ذات الصبغة السياسية الإنتقامية مثل فصل أكتر من 137 دبلوماسياً وإدارياً وسفيراً من الخدمة بجريرة انتمائهم للنظام السابق. ورغم أن المحكمة العليا أبطلت هذه القرارات التي أصدرتها لجنة إزالة التمكين، إلا أن الذين أعيدوا للخدمة تعرضوا لمضايقات ممن تولوا إدارة الشأن الدبلوماسي بوزارة الخارجية، وعرقلوا إجراءات استيعابهم في محطات العمل الدبلوماسي الثنائية والمتعددة الأطراف، و يعتقد السفير سراج أنه جراء ذلك أصيبت الدبلوماسية السودانية في مقتل حيث إن العشرات من السفراء العائدين للخدمة نازحين الآن بالدول والعشرات من البعثات الدبلوماسية المهمة بلا سفراء أو كوادر دبلوماسية مؤهلة.
ويضيف حامد ل(المحقق) إن حالتي التشريد والفراغ في البعثات تعبران تعبيراً دقيقاً عن حالة الدبلوماسية السودانية في ظل حكومة مركزية ضيقة الرؤية والقدرات.
فشل متوقع
أما وزير الخارجية الأسبق إبراهيم طه أيوب فيعتقد بقناعة أن العمل الدبلوماسي للسودان ما كان له أن ينجح في ظروف الحرب التي فرضت على الشعب السوداني ودمرت مقومات الحياة وأجلت المواطنين عن ديارهم وأبقتهم لاجئين يهيمون فى الأرض ويجدون العنت،
و أضاف أيوب قائلاً: (لم يكن فى إمكان الدبلوماسية السودانية إلا أن تفشل أكثر من الجوانب الأخرى .حيث عاد السودان بفضل قصر نظر
القيادة السياسية إلى ما كان عليه قبل الثورة من الإنعزال وخلق العداوات مع الأقربين والأبعدين و بالتالي العودة للعزلة والتشاكس مع الآخرين). و يرى وزير الخارجية الأسبق أنه (لم يكن مقبولاُ أن يناصب السودان كينيا وإثيوبيا وتشاد العداء ويضرب برابطة البلاد أرض الحائط بدولة الامارات العربية المتحدة، ويقرر التخلي عن عضويته بالإيغاد ثم يعود ليطلب منها التوسط في محاولات إيقاف الحرب).
و يعتقد أيوب أن عدم النضج الدبلوماسي يبدو جلياً في قرار تأييد كلا طرفي العدوّان الروسي على أوكرانيا، يقدم قطع الغيار للمحتلين والتأييد السياسي للقوة المعتدية!
أما موقف السودان من الأمم المتحدة ووكالاتها فهو الذي حار فى تفسيره المراقبون وكأن السودان ليس عضواً فيها.
يرى أيوب كذلك أن سبباً للإخفاق الدبلوماسي يرجع لضعف القيادة الإدارية بوزارة الخارجية وانصياعها لأوامر أعضاء المجلس العسكري.
ويخلص الوزير السابق بأن لا نجاح يذكر للدبلوماسية السودانية – حسب رأيه – لجهة أن الأرضية التى تنطلق منها رخوة ومضمونها السياسي والاستراتيجي خطأ.
إشراقات ولكن
رغم ما أثير من حديث عن اخفاقات، إلا أن هنالك من يرى أن مجهوداً خارقاً بُذل من قبل الدبلوماسية السودانية.
و عدد مصدر دبلوماسي مسؤول تحدث ل(المحقق) النجاحات التي قال إنها تمثلت في المحافظة على تماسك المؤسسة الدبلوماسية السودانية، مشيراً إلى إنه في ظروف مشابهة فإن المؤسسة الدبلوماسية يمكن أن تنقسم و وتحدث خلافات داخل السفارات، غير أن قيادة وزارة الخارجية نجحت فى إحداث التماسك المطلوب و التعبير بصوت واحد عن الحكومةو القوات المسلحة و الشعب، وهذا إنجاز كبير ،حسب رأي المصدر ، فضلاً عن نجاح الدبلوماسية فى كشف حجم الإنتهاكات و الجرائم و حقيقة المخطط باعتباره استهداف للدولة السودانية و الشعب، وقد وضح فيه العامل الخارجى لحد كبير، مشيراُ إلى أن الخارجية تمكنت من تحجيم كل محاولات التدخل الأجنبي السياسي الضار سواء من منظمات أو أي واجهات أخرى.
الإنجاز الأكبر
أما الإنجاز الأكبر، بحسب المسؤول الدبلوماسي فيتمثل فى تصفية (يونتامس) وإبعاد المبعوث الأممي فولكر بيرتس باعتبار أنهما أسهما فى قيام الحرب من خلال فشلهما في إنجاز مهام الإنتقال والإصرار على فرض رؤى سياسية بعينها مما أدى لإشعال الحرب – حسب قوله – بجانب نجاح الدبلوماسية فى إيقاف دعوات ظهرت في بداية التمرد مثل دعوة حظر الطيران وفرض منطقة منزوعة السلاح فى العاصمة ودخول قوات أفريقية، وهي دعوات صدر بعضها في اجتماعات حتى على مستوى الإتحاد الأفريقي والإيغاد، كما نجحت الدبلوماسية في محاصرة تصريحات من قادة دول مجاوره أشارت إلى أن السودان لا توجد فيه قيادة.
لقد نجحت الدبلوماسية – والحديث للمصدر الذي فضل حجب إسمه – فى مواجهة تلك الدعاوى و ظل السودان و قيادته فى تماسك و معترف به كقيادة حيث برز ذلك في مشاركة رئيس مجلس السيادة فى اجتماعات للأمم المتحدة فى سبتمبر العام الماضي وفي جولاته الإقليمية الدولية التي رسخت شرعية الحكومة و هزمت رهان البعض بإضعاف شرعية الحكومة و التعدي على سيادة الوطن..
موقف حاسم
أما الموقف الحاسم وفق المصدر فقد تم اتخاذه ضد الإيغاد بسبب استعانتها بأطراف من خارج القارة لفرض حلول و التدخل بصورة ضارة فى السودان حيث تم تجميد عضوية السودان وتجميد إنخراطه في أنشطة إيغاد.
لا إخفاق و لكن
ونفى المصدر وجود اخفاقات و لكنه ذكر أن بعض الاشياء حدت من حجم الإنجازات بحيث كان يمكن للأداء أن يكون أفضل، مشيراً إلى أن الدور الأجنبي و التدخل على مستوى دولة الإمارات ونشاط المرتزقة مازال يحتاج مزيداً من الطرق و الإبراز فضلاً عن أن الحرب خلقت أزمة إقتصادية أعاقت عمل الخارجية حيث أن العديد من البعثات تعمل بأقل من حجمها و هذا حدَّ من الحركة ومساحة التأثير حيث إن بعض السفارات تبذل جهوداً و لكن محدودية الإمكانات معيقة لعملها.
تحدٍ آخر
تحدٍ آخر يواجه الدبلوماسية يتمثل فى معالجة مشاكل السودانيين اللاجئين في بعض الدول بسبب الحرب حيث وصلت أعداد كبيرة منهم لبعض دول الجوار ويواجه بعضهم صعوبات في الحصول على التأشيرة والإقامة و الزيارات وهو تحدٍ يحتاج لجهود من البعثات بالتنسيق الحكومات المستضيفة والمنظمات الدولية المعنية و تفهماً من اللاجئين السودانيين والانتباه حتى لا يقعوا ضحية لتجار الأزمات.