عن القراءة والعشق والتصوف: قصة شمس التبريزي وابن عربي

عبد القادر دقاش
مثلما يُبتلى المجانين بحوار وهمي يتردد صداه في مكان ما في أذهانهم، فإن القراء يتورطون أيضاً بحوار مشابه، يستفزهم بصمت من خلال الكلمات التي على الصفحة. في الغالب لا يدون القارئ ردود أفعاله، لكن أحيانا تنتاب قارئ ما رغبة بإمساك القلم والتواصل مع هذا الحوار بكتابة الهوامش على النص.
هذا التعليق، هذه الهوامش، هذه الكتابة الظل التي ترافق أحياناً كتبنا الأثيرة من النص وتنقله إلى زمن آخر، وتجعل القراءة تجربة مختلفة وتضفي واقعية على الأوهام التي يرويها لنا الكاتب، ويريدنا (نحن قراءه) أن نعيشها.. لأن القراءة عبارة عن محادثة.. هكذا يرى البرتو مانغويل، العاشق الأكبر للقراءة والكتاب والمكتبة..
وبعض الكتب تلازمك مثل ظلك.. بل أكثر من الظل، الظل قد يختفي في الظلام الدامس، ويختفي أيضاً في النور الساطع.. القراءة شيء مثل الحب لا يوصف ولا يكشف.. ولا يفسر! هكذا تكلم “نجيب محفوظ” في إحدى روائعه.. هي تصوف اهتيامي..والتصوف صعود وهبوط..عروج وسقوط…
هل قرأتم: قواعد العشق الأربعون، قصة الدرويش شمس التبريزي..أو هل قرأتم: موت صغير ؟ الأولى ل(أليف شافاق) ترجمة خالد الجبيلي، المترجم ليس ناقلاً، المترجم يجب أن يكون مبدعاً.. يتقمص المؤلف، ويتشرب النص، حتى يسكره..الجبيلي من هذا النوع. السعودي (محمد حسن علوان) كتب: (موت صغير) قصة الكبريت الأحمر والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي..و من لم يصحب ابن عربي في حياته لم يصاحب! الفتوحات المكية تحوى كل شيء، الفقه والفلسفة والحديث والتفسير، والتصوف، والحب، والعلوم والأداب..من أراد السفر في العالم من غير أن يبرح مكانه، فالفتوحات هي (البراق) الطائر الذي يجوب الآفاق..
لكن كيف تقرأ هذه القصص، أو كيف تُقرأ القصص؟ يقول أنطوني دومللو، صاحب أغنية للطائر، قراءة قصة مرة واحدة لن تمنحك إلا التسلية، وقراءتها مرتين تهبك ذائقة لاهوتية. وقراءتها ثالثة تكشف لك عن عمقها ومعناها الداخلي. ولكن إن حملت القصة طوال النهار وتركت شذاها ونغمها يسكنانك وتركتها تخاطب قلبك لا دماغك..قد تجعل منك متصوفاً.
قراءة قواعد العشق الأربعون، وموت صغير، يجعلانك صوفياً، والتصوف هو تجربة حياة..والقصة الحقيقية لا تعلم التجارب. إنها توقظ الإحساس بها.. كما يقول الراهب الهندي (ميهر بابا): لم أجيء لأعلم، لكن جئت لأوقظ.
وكثير من الكتب توقظ..وتنبه. قيل إن تلميذاً شكى لمعلمه ذات مرة: “إنك تروي لنا قصصاً، لكنك لا تكشف لنا أبداً عن معناها.” فقال المعلم: “ما قولك لو قدم لك أحدهم ثمرة ومضغها قبل أن يعطيكها؟” ليس بوسع أحد أن يجد عنك معناك. و لا حتى المعلم.
سأسأل نفسي، متقمصاً، شخصاً آخر، يقفز إلى رأسه سؤال، وكثير من الأسئلة تحرج..بعض الأسئلة لا تحتمل الإجابة، وبعضها يحمل أكثر من إجابة، وبعضها يُجاب عليه بنعم ولا في آن واحد … أي قصة أعجبتك أكثر؟ قصة الدرويش (شمس التبريزي) أم قصة الشيخ الأكبر (ابن عربي)..؟
قصة الدرويش شمس تدور حول الحب الذي هو قيمة عليا من قيم التصوف، وتقول إحدى قواعد التبريزي: (السعي وراء الحب يغيرنا. فما من أحد يسعى وراء الحب إلا وينضج أثناء رحلته من الداخل والخارج أيضا).. فعلاقات الإيمان تقوم على الحب (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه) (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (يحبهم ويحبونه)…لكن التبريزي يتساءل، هل يمكن للإنسان أن يحب مخلوقات الله جميعها ليحتاز الإيمان، إنه اختبار صعب.. لذلك سعى (التبريزي) في أول لقائه ب (مولانا جلال الدين الرومي) إلى تحطيم صورة الرومي عند معجبيه لأنه مقترب من الدين من خلال مظهره والصورة المتداولة عند معجبيه لا من خلال نفسه وروحه، وذلك يبعده عن عالم الناس الحقيقي (عامة الناس) الذين لا يخالطهم ولا يقترب منهم كما يجب، لتفهم وضعهم في الحياة وتمثل بلاءهم ..والذي لا يخالط ولا يجالس ولا يقترب من الناس يكون حكمه عليهم حكماً متسرعاً قاسياً، (لكونك خطيباً وواعظاً مشهوراً فإن المعجبين والمريدين يتحلقون حولك. لكن ماذا تعرف عن عامة الناس؟ السكارى والشحاذون والمومسات… الذين يتعرضون لأشد أنواع الظلم والبؤس، هل يمكننا أن نحب مخلوقات الله جمعيها، إنه اختبار صعب ولا يستطيع إلا القليل من الناس اجتيازه)!
أما قصة الشيخ الأكبر، الذي إن تعلقت بفتوحاته لن تبرح عليها عاكفاً، فهي قصة أخرى… “كاللبلابة التي تلتف على شجرة العنب، هو العشق” ..والمحبة إذا لم تكن جامعة لا يعول عليها..ولن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق..وكل معرفة لا تتنوع لا يعول عليها. هذه هي كلمات الشيخ الأكبر.
عندما يصل الشيء في حركته إلى أقصاه يرتد وينكسر ثم يتلاشى. وغاية الحب زوال الحب وبقاء المحب. أن تحب بلا محبة كما تسكر من غير سكر. المتصوفة يتجاوزون الوسائط في جميع أمورهم.
الدرويش إنسان، يحب جميع مخلوقات الله، لم يحتقر وردة الصحراء، التي اكرهت على البغاء، والله يقول “ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم”.. قد تكون (البغي) أكثر قرباً إلى الله من ملتح عالٍ مستكبر، فالإيمان لا يهتم بالشكل أو التفاصيل، لذلك يقول التبريزي للقاضي الذي يرى على الزعماء تطبيق الشريعة بحذافيرها حتى لا يضل الناس سواء السبيل، يقول التبريزي: ( إن الشريعة كالشمعة، توفر لنا نوراً لا يقدر بثمن. لكن يجب ألا ننسى أن الشمعة تساعدنا على الانتقال من مكان إلى آخر في الظلام، وإذا نسينا إلى أين نحن ذاهبون، وركزنا على الشمعة، فما النفع من ذلك؟ ) ومن يهتم بالشكل والتفاصيل على حساب الجوهر والهدف يكون إيمانه مضطرباً حتى لو صام الشهر كله وضحى وصلى وجاهد ليحج.. يكون الإيمان مجرد كلمة إن لم تكن المحبة جوهرها، فإنه يصبح رخوا، مترهلاً خالياً من أي حياة، غامضاً وأجوف، ولا يمكنك أن تحس به حقا.
لكن ممارسات البشر الخاصة يجب أن تفهم وتقوّم ضمن ثقافتها، لأن الفروقات في الأنظمة القيمية للبشر هي نتيجة لاختلاف الشروط التاريخية.. هل أقول ذلك لأغض الطرف عن بيع (ابن عربي) لخادمه (سلوم) الذي لازمه طويلاً في سوق العبيد..ربما! يجب أن لا يعامل الإنسان على أنه شيء..خاصة (سلوم) الذي ارتبط بابن عربي وأسرته على نحو أصيل.. وخاصة إذا عرفنا أن المتصوفة العظام إن تزوج أحدهم فبواحدة ويندر فيهم التعدد. ولا يوجد عندهم التسري ولا يشترون الجواري للجنس أو للخدمة وليس عندهم عبيد.
ومما يروى أن الصوفي (رياح القيسي) تزوج من امرأة عارفة، وفي صبيحة العرس قامت العروس إلى عجينها تصلحه فقال لها: لو نظرت إلى امرأة تكفيك هذا؟ فقالت: إنما تزوجت رياح القيسي ولم أتزوج جباراً عنيداً. وفي ذلك معنى عميق. فهي تنكر الخدمة المنزلية، لا تريد أن تمتهن مخلوقاً بخدمتها . وهي روح عالية.. ترفض امتهان الإنسان وتصون جوهره البشري..لكن ابن عربي عاش في زمان تختلف شروطه..ومع ذلك لا شيء إنسانياً مخالفاً لفكرة (أنا أنت) في أن المرء يستطيع فهم إنسان آخر لأننا نتشارك كجزء من ملكياتنا المشتركة نفس عناصر الوجود الإنساني.
حتى الحيوان وجد عند بعض الصوفيين وكبار الإنسانيين مكانة تليق بالروح.. فقد قالوا عن زين العابدين بن علي بن الحسين إنه كان يحج من المدينة ويعود لا يقرع راحلته. والمسافة ذهاباً وإياباً تناهز الألف كيلومتر. وإنما يكون ذلك لأنها صاحبته التي تحملت عبء إيصاله إلى بيت الله وإعادته إلى بيته وهي أيضا “روح” ولا يجوز إهانة الروح أو إيذاؤها. وماذا كان سيفعل إذا حرنت به في بعض الطريق؟ يسايرها فيسكن بسكونها ثم ينتظر حتى يروق مزاجها فتستأنف السير.
علينا أن نلتمس ل(محمد حسن علوان) راوي قصة ابن عربي، لأنه وضعنا أمام مشكلة غير قابلة للحل..لأن “التصوف بلا خلق لا يعول عليه” كما يقول الشيخ الأكبر.. أو نجده لابن عربي الذي كان يشق طريقاً شاقاً لتطهير قلبه: ” اضطجعت لأنام وفكرت لو أن فاطمة لم تخبرني بالأوتاد الأربعة لكان خيراً لي. انتظارهم يفتك بي، وهذا الترقب مر قاتل. وهذا الشرط الصعب (طهر قلبك!) كم هو غامض وبلا حدود. كيف أطهره؟ مم أطهره؟ “..
ولكن مع تفضيلنا الضمني للدوريش الإنساني شمس التبريزي، الذي التقى ابن عربي في سوق بغداد، إلا أن ذلك لا يمنعنا أن نحب ابن عربي المروي على لسان محمد حسن علوان.. لأن حب ابن عربي نبيلاً وعريقاً مثل أوراق المخطوطات القديمة.