عن نانسى عجاج
السر السيد
من مجمل التحولات التي شهدها السودان خاصة فى فترة “نظام الإنقاذ”، خلال عشريتها الأولى، والتي يُعد بعضها مؤشراً للتراجع عن الكثير من مكتسبات المجتمع السودانى، يأتى فن الغناء فى مقدمة الشواهد على هذا التراجع بل أقواها، بدءاً من منع بث بعض الأغنيات في الاجهزة الاعلامية الرسمية وصولاُ إلى تحريمه فى أحيان كثيرة واستهداف الناشطين فيه من قبل عدد لا يستهان به من أئمة المساجد والدعاة وكذلك من قبل ما يُعرف بقانون النظام العام.
فى ظل هذه الوضعية التي عاشها ويعيشها فن الغناء وبحكم رسوخه فى وجدان السودانيين وبحكم أنه يشكل إحتياجاً مجتمعياً وانسانياً لا فكاك منه، إستطاع هذا الفن أن يبتكر أساليب مقاومته الخاصة لهذا الحصار ولهذا المنع ولهذا التشهير، والتى من علاماتها خلقه لاصطفاف شبابى بما يشبه الظاهرة من المغنين الشباب من الجنسين وهى ظاهرة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الغناء السودانى ومن علاماتها أيضاً العمل على حفظ الذاكرة الغنائية وإعادة بعثها وبنائها من جديد وذلك باستعادة الكثير من الأغنيات لرواد الغناء بمختلف أشكاله خاصة تلك التى طالتها يد المنع والتغييب. هذا إضافة لما قدمه هذا الجيل من أغنيات تعبر عن أسئلته وذائقته الخاصة، ومن علاماتها الفارقة أخيراً وليس آخراً استفادتها القصوى مما يعرف بالإعلام البديل ومن الفضاء العام إذ أن هذه الظاهرة الغنائية وهي تقاوم لم تنطلق فى الغالب من الإعلام التقليدي رسمياً كان أم أهلياً وهى ميزة تفردت بها فى كل الأحوال.
ساقنى لهذا المدخل المقتضب حفل كنت قد شهدته فى الساحة الخضراء بالخرطوم للمبدعة نانسى عجاج كواحدة من أميز المغنين فى هذا الجيل وكواحدة من صناع /صانعات تلك المقاومة..أتذكر ذلك الحفل جيداً، ولا أنسى أنه وبرغم الغبار الكثيف الذى غطى تلك الليلة أننى قد شهدت، بل وقفت، على تجربة تنهض على شغف كبير بالغناء وطاقة استثنائية فى الأداء تنسجها خيوط تجمع بين الحيوية والأصالة والاحترافية.
هذه المقومات الثلاث هى ما تصنع ما يمكن تسميته “بطقس الاستماع” والذى يقوم بالأساس على تفعيل الفضاء العام … على زحزحة موقع الحاضرين نساء ورجالاً من موقع المتلقي إلى موقع المشارك، فقد استطاعت نانسي بتدخلها الحميد وهي تغنى، فى ما أسميه (نظام الحالة الأدائية) أن تُبقي أولاً على الحاضرين وقوفاً وأن تجعلهم ثانياً يرددون خلفها ومعها ما تقول، فبين أغنياتها الخاصة التى تغنت بها (كغربة وأندريا وأحبك وحكاية الوردة والشارع وأهلاً بيك وأغنية وجيدة لسيد خليفة واغنية يا روحى سلام عليك لصلاح محمد عيسى) ينهمر الشجن ويشتعل الفضاء العام وحيث هنا تكون نانسي والتي من وجهة نظري، هى من منحت أداء المغنيات السودانيات خاصة فى جيلها بعداً تحررياُ وأضفت عليه ملمحاُ حداثياً ليس فقط بطريقة أدائها وإنما أيضاً بنوعية الشعر الذى تغنيه وبأختياراتها الملهمة من ذاكرة الغناء السودانى وبالحضور المركزى لبعض الآلات الموسيقية كالساكسفون والدرمز فى الأوركسترا المصاحبة لها.
ستكون نانسي أحد أبرز المغنيات/المغنين من أبناء جيلها الذين رسوا بالغناء وفقاً للشرط الذى عاشه ويعيش فيه الآن على ضفاف “السياسة” بمفهومها الأعمق، وكيف لا وهو كما أشرنا انطلق فى معظمه من الإعلام البديل بكل ما يحمله من إيحاءات وكذلك عمل بشكل أساس على اتخاذ الفضاء العام مجالاً حيويا للتعبير عن نفسه بكل ما يعنيه الفضاء العام من تجمهر وتظاهرة وهو ما لم يعد متاحاً فى السودان في الغالب الأعم إلا فى صلاة الجمعة وصلاة العيدين.
أخلص إلى أن نانسي عجاج والتى عاشت بعضاً من عمرها خارج السودان والتى باتت تشرع وبجد ومثابرة فى تأسيس مشروعها الغنائي الخاص، والذى يشير بجلاء إلى عدم انفصاله عن الذاكرة الغنائية السودانية وفى نفس الوقت انفتاحه على التجارب الغنائية الانسانية العامة، أخلص إلى أنها تعد إضافة حقيقة لها ما بعدها.