رأي

فلسفة الانكسار التاريخي في نزول القرآن على العرب

إن الأمر إلى حد كبير مرهون بشدة التأثير للحدث وامتداده واستمراريته عبر حقب تاريخية متقدمة وأن لا يموت أو ينتهي الحدث بلحظة وقوعه .. وأشد درجات التأثير الذي يكون لحدث ما، هو المرتبط بما يمكن تسميته ظاهرة (الانكسار التاريخي) بالمعنى الهندسي .. وهو وقوع الحدث المعين دون وجود مقدمات منطقية عليه أو ارهاصات تنبئ بضرورة وقوعه في زمان ومكان معينين، والانكسار هنا يعني أن السياق التاريخي يكون ماضياً على وتيرته واتساق عناصره ومكوناته وظروفه ثم فجأة يحدث تحول له في اتجاه مختلف تماماً وغير متوقع مطلقاً.. فتكون النتيجة لفت كامل لانتباه الناس وتركيزهم في جميع أطراف الأرض نحو هذا الحدث التاريخي الشاذ عن سياقه ويحاولون جاهدين إيجاد تفسير له ..

وهذا ما حدث تماماً بالنسبة لنزول القرآن في جزيرة العرب ..
فالقرآن يحمل وعياً كونياً ومعرفياً كلياً ومتقدماً بلا حدود ، فلو أنه نزل في بلاد متقدمة جداً في الحضارة الفكرية مثل أثينا أو روما آنذاك ، لاعتبره فلاسفة وعلماء اليونان أو الرومان أنه جزء من السياق الطبيعي في مسيرة التطور التاريخي للوعي اليوناني أو الروماني، وحتى كل الأمم الأخرى أيضا قد تعتبره هكذا وأن القرآن هو من بنات الفكر الفلسفي هناك وأنه حلقة من حلقات تطورهم العقلي والفكري الإنساني، ولَمَا كان في هذا الأمر بالنسبة لهم أي غرابة .. ولكن كان الشيء الغريب كل الغرابة وأشدها أن ينزل هذا الكتاب الخارق في بلاد لا تحمل أي مقوم من العلم والوعي والفكر والنظم المجتمعية المتقدمة يجعلها أهلاً لنزول هذا الكتاب بها .. هنا أحدث نزول القرآن في جزيرة العرب الانكسار التاريخي المحقق للأثر اللافت للانتباه بأنه غير متوقع إطلاقا حدوثه لعدم وجود أي مقدمات منطقية أو حضارية له ، وأنه من المستحيل أن يأتي به عقل إنسان يعيش في هذه المنطقة المتخلفة حضارياً وفكرياً، وهذا ما جعل الأمر منطقياً أمام شعوب العالم أن هذا القران لم يأت به بشر وإنما هو من عند الله ولا مفر.

وفي مقام إخر.. هناك فرق كبير بين أن تكون الحاجة للدين عاطفية، وأن تكون الحاجة إليه معرفية ذات دلالات تنظيمية .. في الجزيرة العربية لم يكونوا يملكون سوى البلاغة العربية وأساطير دينية تمثلت في أصنام يعبدونها لتلبية الرغبة الدينية في داخلهم .. ولكنهم أبدا لم يكونوا مهيئن عقليا لتلقي العمق الدلالي المعرفي والكوني في القرآن .. فحياتهم كانت سطحية جداً وليس فيها أي عمق فكري يستوعب الدلالات المستمرة للقرآن .. وخير من وصف حالة هذا العقل العربي الجاهلي آنذاك كان الكاتب البارز (مارون عبود) في كتابه (الرؤوس) في فصل بعنوان (حب وحرب وشرب)، هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى ، لو كان الأمر مرهون للعاطفة الدينية دون البعد المعرفي ، فقد كانت هناك شعوب في ذاك الزمان أشد قوة في عاطفتها الدينية مثل شعوب الشرق الأدنى والأقصى ، وحتى الاغريق أنفسهم في عهد الأسطورة كانت عاطفتهم الدينية وتصورهم لحقيقة الآلهة أكثر نضجا من العرب بكثير ، فآلهة هوميروس كانت آلهة تصورية تجريدية على هيئة بشر بقدرات خارقة بينما آلهة العرب كانت أصناما من حجارة . ولذلك كان القرآن بأعماقه الدلالية التي يستلزم فهمها تخصصات وقدرات علمية وفكرية متقدمة ، لا يحمل مقدمات نزوله في جزيرة العرب، فلم يكن مستوى العقلية العربية متوافقا مع القرآن .. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( بدأ الاسلام غريباً، وسيعود غريبا كما بدأ).

ولو أن القرآن خاطب العقل العربي لأن العرب هم الأقدر على فهمه بحكم مجرد امتلاكهم اللغة، لكانوا فهموه بمجرد نزوله .. ولكن القرآن تكلم عن أشياء لم تخطر ببالهم أصلا ..
القرآن لم ينزل على النبي محمد لأنه عربي ولم ينزل باللغة العربية لأن قبيلة النبي محمد كانت تتحدث العربية .. ودليل ذلك أن وصف القرآن بأنه عربي جاء بمعنى الابانة والايضاح وليس لأنه باللغة العربية ..

كل الكتب السماوية نزلت لمخاطبة عقول الأقوام الذين نزلت فيهم وبلغتهم ، وكانوا مهيئين تماماً لفهمها حتى ولو كفروا بها .. أما القرآن فنزل باللغة العربية ولكنه لكل الشعوب ، وهناك مَن فهم دلالات القران أكثر من العرب في الوقت الذي لم يجد كثير من العرب الذين رفضوا الاسلام وصفا للقرآن، لأنهم لم يفهموه، إلا أنه “سحر” وأن محمد ساحر ، ولأن السحر هو الذي يحقق اللامعقول ويأتي بطريق لا معقول .. ولذلك فعقولهم لم تستوعبه حق الاستيعاب فرأوه سحراً.

إن غربة وغرابة نزول القرآن عند العرب كانت هي الدليل على أن القرآن ليس لهم فقط كما الأديان السابقة وإنما هو لكل الناس .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى