رأي

مات تاجر الموت: جائزة نوبل والذكاء الاصطناعي 2/2

د. أحمد عبد الباقي

عطفا على ما سُرد في الحلقة الأولي، فإن الناظر إلي قائمة الدول الفائزة بالجائزة فلن يسره حال المسلمين البئيس من حيث المساهمة في التطور العلمي المساهم في تقدم حياة البشرية، فعدد السكان المسلمين حول العالم- حسب تقرير شعبة السكان بالأمم المتحدة في 10 نوفمبر 2022 م- بلغ (2) مليار، أي بنسبة %25 من سكان العالم، ولكن عدد الفائزين منهم بلغ (22) فائزا فقط مقارنة بأوربا وأمريكا حيث بلغ عدد الفائزين فيهما (776) فائزا من إجمالي (965) فائزا منذ 1901-2024م رغم أن تعداد سكان هذه الدول لا يتجاوز ال 14% من سكان العالم، أما بقية دول العالم في أوربا الشرقية وقارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وكندا فاز فيها (180) فقط، الأمر الذي يعكس مدى التفاوت المريع في مستوى الفجوة العلمية والتأثير الإيجابي علي مستوى حياة البشرية لذلك لا بد من جهد عالمي يضع نصب عينيه إيجاد آلية تسهم في تمويل البحوث العلمية بصورة مناسبة وذلك عن طريق الاهتمام بمؤسسات البحث العلمي في الدول النامية خاصة لتحفيز البحث العلمي وتشجيعها علي التركيز بصورة أكبر علي “البحث العلمي وربط مخرجاته بالتنمية” من أجل الإستفادة من تلك المخرجات في تطوير حياة هذه المجتمعات خاصة والبشرية بصورة عامة مع الأخذ في الحسبان أن الدول النامية هي أكثر الدول التي تعرضت للاستعمار والقتل بالآلة الحربية التي اعتمدت علي بعض بحوث و اختراعات نوبل للمتفجرات وصناعة الأسلحة.

جائزة نوبل واختلال معايير الاختيار

انتقد كثيرون آلية الاختيار والترشيح لجائزة نوبل لمن اُعتبروا أنهم غير جديرين للفوز بها مما أثار جدلا حول ضوابط ومعايير لجنة اختيار الفائزين، مثلا قائمة بعض الذين اُنتقدوا لفوزهم في بعض المجالات تشمل: الطبيب البرتغالي أنطونيوس إيجاس مونيز الذي فاز بجائزة نوبل للطب لعام 1949م لاختراعه عملية فصل الفص المخي الجبهي للمرضى الذين يعانون الوسواس القهري والفصام والاكتئاب، إلا أن هذه العملية أثبتت فشلها بعد ذلك، أما جائزة نوبل للسلام لعام 1953 فقد فاز بها رئيس الصليب الأحمر الأمريكي جورج مارشال مؤسس “مشروع مارشال” لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان هو نفسه قائدا للقوات العسكرية الأمريكية في أثناء الحرب الأمريكية- الفلبينية، وفي عام 1997م منحت جائزة نوبل للاقتصاد للاقتصاديين الأمريكيين روبرت ميرتون ومابيرون سكولس، وذلك لفتحهما آفاقا جديدة في مجال التقييمات الاقتصادية، إلا أن الصناديق والشركات المالية التي طبقت نظريتهما خسرت بعد ذلك مليارات الدولارات، ومازال ينتقدها -حتي تاريخ اليوم- العديد من الخبراء والمختصين، حصل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما على جائزة نوبل للسلام عام 2009 م بعد أشهر قليلة من توليه رئاسة الحكم في أمريكا وهو ليس له إنجازات تذكر لتؤهله لنيل الجائزة حسب ما يري بعض النقاد، وفي عام 2018م حُجبت جائزة نوبل للآداب، بعد أن تقدمت( 18) سيدة بادعاءات تحرش جنسي ضد المصور الفرنسي جان كلود أرنو المتزوج بعضوة سابقة في الأكاديمية السويدية، كما فاز الرئيس المصري السابق أنور السادات بجائزة نوبل للسلام في عام 1987م بالاشتراك مع مناحين بيجن رئيس وزراء كيان احتلال فلسطين، ومنحت أيضا لياسر عرفات في عام 1994م بالاشتراك مع إسحق رابين رئيس وزراء الكيان الصهيوني ومعهما وزير خارجيتها شمعون بريز لجهودهم في السلام -حسب ما رأت اللجنة- ولكنه علي النقيض من ذلك، فإن كل العالم شاهد علي التاريخ الدموي للمسؤولين الصهاينة الذين مُنحوا الجائزة وتلطخت وما زالت تتلطخ أياديهم وأيادي خَلفهم بدماء الأبرياء في فلسطين المحتلة وغزة خاصة، تطول القائمة علي مثل هذه التناقضات مما يثير أسئلة جادة عن المعايير والاعتبارات الحقيقية التي تقف وراء قرارات اللجنة لاختيار الفائزين بالجائزة حيث يقع علي كاهل اللجنة مسؤولية أخلاقية وأمانة علمية ينبغي توخيها ومراعاتها في منح الجائزة لمن يستحقها خاصة في حالة الشخصيات المثيرة للجدل كما رأينا في الأمثلة المذكورة.

جائزة نوبل للكيمياء والفيزياء لعام 2024م والذكاء الاصطناعي

أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم منح جائزة نوبل للكيمياء لعام 2024م للعلماء ديفيد بيكر “لتصميم البروتين الحسابي” وديميس هاسابيس بالاشتراك مع جون إم جامبر في “تنبؤ بنية البروتين”، كما فاز بجائزة الفيزياء العالِمين جون هوبفيلد وجيفري هينتون تقديرا للاكتشافات والاختراعات التي تسهم في “التعلم الآلي” المستخدم في تطوير الذكاء الاصطناعي.

لاشك أن لتطوير البحوث في مجال الذكاء الاصطناعي شأن عظيم وتأثيرات إيجابية في حياة البشر ولكن ينبغي التعامل بحذر عندما يصل الأمر إلى التسابق في تطوير بحوث الذكاء الاصطناعي للاستخدام العسكري حتى أن ذلك أصبح هاجسا ومعضلة تؤرق الساسة والباحثين وخبراء القانون والمهتمين بأخلاقيات الحرب علي نحو ربما يعيد إلي الأذهان اختراعات الفريد نوبل في مجال المتفجرات التي شكلت جزءا من صناعة الأسلحة التي خاضت بها الدول الغربية حروبا مدمرة ضد الدول الضعيفة.

بات الاهتمام الشديد ببحوث الذكاء الاصطناعي لتطوير الأسلحة مثل المسيرات والروبوتات أو ما يعرف عموما بالأسلحة الهجومية المستقلة “Autonomous Weapons” يثير الهواجس خشية أن يؤدي ذلك إلي التسابق والتنافس في اقتناء هذه الأسلحة حيث يشير خبراء الأسلحة إلي أن الذكاء الاصطناعي يعتمد في عمله على “التعلم الآلي” الذي يستخدم خوارزميات معقدة بهدف التعرف على أنماط البيانات بشكل تلقائي، وبعدها يطبق ما تعلمه لاتخاذ القرارات، وعليه يعمل كل من الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي بشكل متوازي من حيث معالجة كميات كبيرة من البيانات و إجراء الحسابات المعقدة، وتكمن خطورة هذا النوع من الأسلحة التي تعتمد علي الذكاء الاصطناعي بأنها مزودة بما يُعرف بالأنظمة الخبيرة ” Expert Systems” التي تساعد علي اتخاذ قرار الحرب وتصعيد النزاعات، فعلى سبيل المثال: تجرب وزارة الدفاع الاميركية من أضمن أنشطتها البحثية دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في عملية صنع القرار العسكري في كل فروع الخدمة العسكرية وأوامر القتال المتعددة، ولأهمية هذه الاسلحة التي تعتبر مصدراً للتهديد حدت وقللت إدارة الرئيس بايدن من صادرات التكنولوجيا الفائقة إلى الصين من أجل المحافظة على الريادة الأميركية في الذكاء الاصطناعي.

ولخطورة هذه الأسلحة المستقلة أُطلق عليها الثورة الثالثة للأسلحة

The Third Revolution in the Warfare

بينما وصفت الأسلحة النووية بالثورة الثانية والأسلحة النارية بالثورة الأولي، وإزاء استشعار خطر تلك الأسلحة سعت الأمم المتحدة لوضع قوانين لتنظيمها ولكنها فشلت في استصدار قرارات تضع ضوابط وقوانين لاستخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة وإقتناء الاسلحة الفتاكة التي تطورها بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا، وفي هذا الصدد ربما تكون روسيا قد استطاعت عرقلة المحادثات في مؤتمر الامم المتحدة حول الاسلحة المستقلة، مع العلم أن روسيا ليست الوحيدة التي تسير في هذا الاتجاه، فالولايات المتحدة الامريكية والهند وإسرائيل جميعها تعارض وضع الضوابط التي تحكم استخدام تلك الأنظمة العسكرية، وعليه فإن المجتمع الدولي اليوم بحاجة الى تضافر الجهود الدبلوماسية في تقييد استخدام الأسلحة المزودة بالذكاء الاصطناعي ووضع ضوابط وقوانين تقيد انتاجها واستخدامها، كما ينبغي ألا ننسي الدور المهم الذي يمكن أن يضطلع به المجتمع المدني في النضال من أجل وضع ضوابط وقيود تحد من التسابق في مجال الأسلحة “المستقلة” ولهذا السبب تأسس تحالف ما يعرف بـ “أوقفوا الروبوتات القاتلة” Stop Killer Robots الذي أنشئ في عام 2012م ويضم (250) منظمه في (70) دولة، ودشن نشاطه في عام 2013 م، ونجح التحالف في عام 2023م في الضغط على الدول لتبني أول قرار للأمم المتحدة على الإطلاق بشأن الأسلحة المستقلة والذي اعتمدته أغلبية ساحقة من الدول.

تأسيسا علي ذلك فإن هناك حاجة ملحة إلى تبني قانون دولي جديد شبيه بمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية لتنظيم الحد من سباق اقتناء “الأسلحة المستقلة” والتسابق في تطوير ابحاثها لأن انتاج السلاح المستقل لا يتضممن أية مواد أولية باهظة الثمن أو يصعب الحصول عليها مما يعني أنّه سيصبح بإمكان أي قوة عسكرية إنتاجه بكثافة وبكلفة قليلة، ولن يكون ظهوره في السوق السوداء إلا مسألة وقت لينتهي بين أيدي الطغاة من الدول وأمراء الحروب في العالم، مع العلم أن المعارضة لتطوير هذا النوع من الأسلحة لا ينفي مطلقا الإمكانات الهائلة المتاحة في مجال تطوير الذكاء الاصطناعي لمصلحة الإنسانية وتيسير حياتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى