رأي

معضلة الخطاب السياسي … وعقلية التحشيد

رمضان أحمد

وجدت نصريحات الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، أمس، ردود فعل متباينة في الشارع السوداني. كثير من القوى السياسية تلقت التصريحات بدهشة والبعض يرى أن التصريحات ليس هذا وقتها.

بعيداً عن ذكر الجهات التي غضبت وتلك التي فرحت بالتصريحات، دعونا نلقي الضوء في هذا المقال على أهمية الخطاب السياسي في هذا الوقت بالذات.

المشكلة التي تواجه البرهان والتي قد تضره كثيراً إذا لم يتخلص منها سريعاً، هي معضلة مخاطبة الخارج والداخل بخطابين مختلفين، في ظل الفضاءات المفتوحة وانهيار جدار السرية، دون أن يغضب أحدهما.  هذه هي المشكلة التي واجهت حكومة الإنقاذ طوال الثلاثين عاماً من عمرها حتى سقوطها، حيث كان الخارج يلتقط الخطاب الموجه إلى الداخل ويعتبره هو الأصل ويحمله محمل الجد، علماً بأن الفضاءات لم تكن مفتوحة وقتها كما هي الآن. وكثيراً ما تحاول الحكومة معالجة الأمر دون جدوى، لأن المثل يقول “المابيك، في الضلمة بحمر ليك”، خاصة جماعات اللوبي المسيحي المتطرف التي كانت تأخذ خطاب الإنقاذ الموجه إلى الداخل من باب “من دقنو وأفتل لو”.

الإنقاذ كانت عندها مشكلة متأصلة وهي مشكلة الشرعية، بحكم أنها جاءت عبر انقلاب عسكري، مما جعلها تعتمد على عقلية التحشيد وبذلت أموالاً طائلة في ذلك. عقلية التحشيد تقوم على المبالغة في إبراز “الإنجازات” حتى لو كانت مجرد إنشاء عمود إشارة مرورية. فضلاً عن أن الإسراف في استخدام الشعارات الإسلامية كان مرده إلى عقلية التحشيد هذه.

ويمكنني القول أن حكومة الإنقاذ حاولت أن تحسن مخاطبة العالم الخارجي بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل حيث كان الخطاب مباشراً، ولكن حصلت انتكاسة بعد انفصال الجنوب، فعادت حليمة إلى قديمها. اليوم البرهان ليس بحاجة إلى عقلية التحشيد، إذ لابد أن يخرج منها، بالنظر إلى الالتفاف الشعبي حول الجيش، وهو الأول من نوعه على مدار التاريخ. البرهان يحتاج إلى طاقم من المستشارين المدركين لطبيعة المشهد السياسي داخلياً وخارجياً، بحيث يشيروا عليه لصياغة خطاب متوازن لا يستعدى قوى داخلية أو خارجية، ولا يوحي بوجود خوف من قوى داخلية أو خارجية.

البرهان لا يعاني حالياً من مشكلة شرعية، باعتباره قائداً للجيش وهو في نظر المواطن تصدى لمؤامرة خارجية استهدفت كيان الدولة السودانية وأبلى بلاءً حسناً في ذلك يشكر عليه. فكونه تصدر قيادة الدولة في ظل وضع استثنائي يعطيه الشرعية الكافية التي تمكنه من ممارسة حقوقه كقائد دون أن يلتفت يميناً أو يساراً طمعاً أو خوفاً.

البرهان بحاجة إلى خلع عقلية التحشيد والتصرف كرجل دولة، في وضع استثنائي يتطلب منه أن يصدر خطاباً سياسياً واضحاً ليس فيه رسائل سالبة أو موجبة لأي قوى سياسية بعينها، خطاب سياسي يصلح للداخل والخارج على حد سواء. أفضل خطاب سياسي يمكن أن يطلقه البرهان في الوقت الراهن والحرب على وشك الانتهاء هو خطاب يمسح دموع نساء السودان جراء المصيبة التي ألمت بهن، ويرسم ملامح العودة إلى الوطن لمن اضطروا للخروج من ديارهم، ويعد ببناء مؤسسات الدولة لتقوم بدورها في رتق ما انفتق من النسيج المجتمعي، ويوحد الكلمة، ويرسم ملامح المستقبل ويبعث الأمل عسى أن تندمل الجراح ليخرج المجتمع السوداني معافى ليتحسس طريقه إلى التقدم والنهوض، بيد أن البرهان يبدو بعيداً عن هذا النوع من الخطاب السياسي، إذ إنه ما يزال غارقاً في عقلية التحشيد الموروثة، بل كثيراً ما يتقمص شخصية البشير.

السودان مقبل على عهد جديد، أهم ما يميزه أنه عصر جماهيري، إذ إن الهزات السياسية العنيفة التي ضربت البلاد منذ سقوط حكومة الإنقاذ إلى قيام الحرب التي أيقظت الوعي السياسي في الجماهير في كل أرجاء الوطن. ونتيجة لهذا الوعي فإن الجماهير لن تترك السياسيين يعودون إلى المشهد بنفس العقلية التي أضاعت ثورة الشباب.

البرهان معني بصورة مباشرة بتهيئة الأجواء ليقول الشعب كلمته بكامل حريته في اختيار قيادته السياسية، علماً بأنه هو نفسه لو أراد أن يكون خياراً للشعب فليكن ذلك عبر صندوق الاقتراع، بدون الحاجة إلى استخدام التحشيد.

وعلى هذا الأساس يجب أن يكون خطابه السياسي معتدلاً يصلح للداخل والخارج على حد سواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى