رأي

هكذا صرخ المجنون!

عبد القادر دقاش

(هل تعتقد أنه لو كان لليمون اسم آخر، سيكون له نفس الطعم.. الطعمية هي نفسها، أليس كذلك، اسمها يعادلها تماماً في ذاكرتك، لأنه لا يمكن أن تتخيل لها اسما آخر، كأن تكون موزة مثلاً، أو حاجباً..) .. يحاول “إيهاب عدلان” أن يضع أصابعنا لنتحسس (اللغة)..فللغة أيضا ملمس..ناعم لا يخدش.. وآخر.. خشن يخدش ويجرح ..وهما متجاوران غير متقابلين.. ووجودهما أشبه بالصورة والكتابة في القطعة النقدية..ومع ذلك نظل عاجزين عن تعريف كثير من الأشياء الأشد سطوعاً ووضوحاً ووجوداً.. مثل الحب، مذاق القهوة واللون الأحمر والأصفر .. الغضب ..التعصب والكراهية..

(هكذا صرخ المجنون) ل”إيهاب عدلان”، رواية تتحدث عن التاريخ بنفسٍ ملحمي يتمحور حول العرق والهوية.. والإنسان.

(مجنون) يحمل مطرقة يهدم المألوفات والمسلمات، يشبه (زرادشت) المتكلم على لسان نيتشه، والداعي إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها.. و(زرادشت) نيتشه، حكيم، لكن (مجنون) إيهاب عدلان، ثائر، ومحارب، ومقاوم لأنساق ثقافية متوارثة محمية بجلال التقديس، مصونة ومحصنة وثابتة ومغلقة.. أنساق لا تتلقى معطيات الواقع كما هي عليه وإنما تلونه بما تطبعت عليه، وما تلقته من موروث، لذلك لا تكون الأشياء كما هي، بل كما يتم تصورها وفقاً لأنماط ذهنية مسبقة يقينية لا يتسرب الشك إليها..

( هل تعرفون يا سادتي..لماذا أنتم لا تأكلون الحصين مثل متحدثي لغة اللنقالة في جمهورية الكونغو ..بالضرورة، ليس لأن طعمها لا يناسب ذائقتكم الرفعية أيها السادة، بل لأن الوعاء الثقافي لديكم لم يستوعبها في الانتخاب الثقافي للحركة الاجتماعية في التاريخ ك(وجبة) وهذا يعني ببساطة مقاربة أن: إن لم يدخل العرب السودان بهذا الكم بعد القرن السابع الميلادي، لما رفض ثقافياً رجال قبائل النوبيين في الشمال أن يزوجوا بناتهم لواحد من جبال النوبة الآن. لأنهم كانوا سيعرفون حينها أنهم (جينيا) ينتسبون إلى سلف واحد…. وبذا يكون الشايقي كالجعلي ولا أستثني الرباطابي بأي حال، إنهم مثل إخوانهم المذكورين أعلاه: ليسوا أكثر رفعة أبداً (انثربولوجياً) – إن كنا أكثر شفافية – من ذاك الأسود منهم في جبال النوبة إن تعلق الأمر بالأصالة. لأن ذات هذا الذي يصنفونه (دون) هو يشكل مركز الحضارة النوبية نفسها التي تنتسب لها ذات القبائل أعلاه بفخر).

الإنسان ابتكر الأوهام..لذلك لا يستطيع أن يعيش بدونها، ومن الأوهام صنع تراثه وتاريخه الثقافي. يقول (المجنون): (الحياة جميلة، ليس علينا سوى أن نضع وهمنا بها، ذاك الذي أقرناه المعنى كحوجة، ولطالما أن وجود الآخر هو شرط بقاء، وهذا الآخر له وهمه الخاص به، هو إذاً يشكل الاختلاف كقيمة تعدد، والاختلاف هو المعطى الأساسي في صناعة هذا الوهم كتصور، فوجود الآخر إذاً، هو ضرورة لتكوين حركية مشهد حلقات الوهم الذي نحتاج إليه كإبداع).

هكذا صرخة المجنون تحرك السكون وتهز الاطمئنان وتزعزع الرضا… المجنون (…ليس هناك أخطاء بالمفهوم المطلق، بل أيضاً هناك أفعال صواب تحولت إلى أخطاء لأنها لم تتسق وتصورنا المبدئي لها، فحتى الساعة الواقفة تكون صحيحة مرتين في اليوم) !!

لا يستطيع قول كل شيء، عارياً، إلا (مجنون).. وإيهاب عدلان من خلال (مجنونه)..

يقول كل شيء،(… ومن يومها أصبح الرجل الغريب يظهر للناس فجأة وفي أي مكان، يقول ما يخشاه الجميع ويختفي) يختفي من حيث جاء، ولا أحد يدري من أين جاء، يقول: ( جئت من كبتكم وتنقاض الشارع. أنا صرختكم … أناكم المتحرر منكم ليكونكم وعياً من جديد. فاحفروا عميقاً لتعرفوا، واقرأوا كثيراً لتكتبوا).

لا يحاول (المجنون) إصلاح العيوب التي يحملها الإنسان فحسب، ولكنه يحاول اقتلاعها من جذورها..وهذا أمر لا يتم بسرعة..فهو أشبه بزحزحة طوبة يقوم عليها بناء كامل.إن أزيحت سينهار البناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى