هل وصل الشرق الأوسط… مرحلة اللاعودة؟

بدر الدين عبد الله
جاء في مذكرات السيناتور الأمريكي الجمهوري بول فيندلي(1931-2019) التي صدرت في كتاب تحت عنوان(أمريكا في خطر) ويقصد بذلك خطر السياسة الخارجية الأمريكية المنحازة لإسرائيل على حساب المصالح القومية الأمريكية ، جاء في تلك المذكرات أن الرئيس الراحل ياسر عرفات ، في إطار جهود فيندلي لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، قدم له مقترحاً وطلب منه نقله للجانب الإسرائيلي ، وفحوى المقترح (إذا وافقت إسرائيل على فلسطين مستقلة في الضفة الغربية وقماع غزّة مع ممر يربط بينهما ،فإنه يتعهد بأن فلسطين الجديدة ستعيش في سلام وتقيم علاقات الأمر الواقع الإقتصادي مع إسرائيل) .
وعندما نقل فيندلي المقترح للجانب الإسرائيلي رد عليه الرئيس الاسرائيلي حينها منحيم بيغن ( لن نتخلى أبداً أبداً عن شبر من يهودا والسامرة – الضفة الغربية-) . وأورد فيندلي في كتابه أيضاً في هذا الشأن ( أنه لم توجد لدى المسئولين الإسرائيليين في أي وقت من أوقات الدولة اليهودية محادثات النيات الطيبة ، بل أرادوا بدلاً عن ذلك للنقاشات أن تستمر إلى ما لا نهاية مما يتيح لها الوقت لتوسيع المستوطنات لإجتياح فلسطين نهائياً وإزالتها). مصداقا لذلك فالناظر لخريطة الضفة الغربية في الوقت الراهن يجد هذه الكلمات قد تم تطبيقها حرفياً على الأرض ، فالمستوطنات قطّعت الضفة الغربية الى شرائح صغيرة وبلدات معزولة عن بعضها البعض يسهل إبتلاعها بسهولة ، وهو ما تحاول إسرائيل تسريعه الأن من خلال نقل الحرب ،دون مبرر، من غزّة الى الضفة الغربية. وصرح أحد قادة منظمة التحرير الفلسطينية مؤخراً أن ابوعمار إعترف قبل وفاته مسموماً بأن (إتفاقية أوسلو للسلام كانت خدعة كبيرة).
فالميول الإسرائيلية للسلام والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط لا تعدو أن تكون مجرد تكتيكات مرحلية ، وهي تتسنح الفرص او تخلقها للتوسع التدريجي لتحقيق طموحاتها وأهدافها الإستراتيجية لتكون أكبر دول المنطقة (جغرافياً) وأقواها عسكرياً وإقتصادياً مستفيدة من دعم غربي غير منقطع ولا حدود له.
والحكومة الإسرائيلية لم تكتف بالتدمير الممنهج للبشر والحجر بقطاع غزّة في الحرب التي دخلت عامها الثاني ، فعمدت الى إنتهاك اتفاقية السلام مع مصر بإحتلال محور فيلادلفيا على حدود قطاع غزّة مع مصر وأغراها الرفض والاحتجاج المصري الخجول لقصف القنصلية الإيرانية في سوريا ثم إغتيال إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية مما إضطر إيران للرد مرتين بصواريخ طالت العمق الإسرائيلي في سابقة من حيث حجم الإستهداف للداخل الإسرائيلي ، ثم ما لبثت أن إنتقلت لإشعال جبهة لبنان وتحويل مساندة حزب الله للمقاومة في غزّة الى حرب شاملة بإغتيالها عدد من قيادات الصف الأول لحزب الله وعلى رأسهم الامين العام حسن نصرالله وقصفها الذي طال فيما بعد سائر التراب اللبناني . وتحاول الأن التوغل البري في جنوب لبنان ، ضاربة عرض الحائط بحقائق قرار محلس الأمن بالرقم (1701 ) ومستهدفة قوات الامم المتحدة بجنوب لبنان (يونيفيل) دون الإلتفات للإحتجاجات الدولية في هذا الشأن.
وعلى ذات النهج رفضت إسرائيل زيارة الأمين العام للأمم المتحدة اليه وإعتبرته شخص غير مرغوب فيه ، في سابقة لم تشهدها العلاقات الدولية ، وكانت قد تجاهلت من قبل قرار مجلس الامن الدولي والقاضي بالوقف الفوري لإطلاق النار بقطاع غزّة ، ولم تعر قرارات محكمة العدل الدوليةأدنى إلتفاتة ، وإعتبرت من ناحية أخرى توصية مدعي محكمة الجنابات الدولية، كريم خان، بإصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه ،معاداة للسامية. ومازال العالم يقف على شفى حرب أخطر اذا ما أقدم الجيش الإسرائيلي على الرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية بإستهداف منشئاتها النووية أو النفطية. أما جبهة إسناد اليمن فقد ردت عليها إسرائيل بقصف ميناء الحديدة مما زاد من إستهداف جماعة أنصار الله الحوثية للملاحة الدولية بالبحر الأحمر وإرسال عدد من مسيراتها وصواريخها الباليستية عبر الاف الكيلومترات الى العمق الاسرائيلي .
الخطورة الماثلة الان أن إمتداد شرارة الحرب الى مناطق أبعد في غير مستبعد تماماً ، فالتقارير التي تفيد بخطة اسرائيل التوسعية بإختراق الاراضي السورية والتوغل شمالاً نحو تركيا إستدعى أن يحذر الرئيس التركي أردوغان من مغبة مساس إسرائبل بالسيادة التركية على منطقة الأناضول عبر توغلها في سورية وتوظيفها للجماعات الكردية المتمردة على الدولة التركية. وفي تطور خطير في هذا الشأن دعت الحكومة التركية البرلمان للإنعقاد التهديد للأمن القومي في جلسة سرية إمتدت لأكثر من 10 ساعات.
يأتي ذلك أيضاً على خلفية تصريحات نتنياهو بعيد حالة الإنتشاء الي إنتابته بعد الضربات الناجحة التي وجهتها إسرائيل لحزب الله عندما صرح بأنه سيعيد ترتيب الشرق الأوسط ، طبعاً بما يتماشى مع الإستراتيجية الإسرائيلية التوسعية. ولم يتوقف الوزيران المتطرفان بحكومة نتنياهو ، بن غفير وسومريتش، منذ إندلاع حرب غزّة من التصريح بنواياهما العدوانية التوسعية وذلك بالدعوة صراحة الى إبادة الشعب الفلسطيني وإحتلال كامل الضفة الغربية وضم كل من لبنان وسوريا للدولة اليهودية ، وهما بذلك يعبران عن حقيقة هذا الكيان الغاصب والعنصري التوسعي بغطاء غربي ، ويشجعه على ذلك شلل عربي وإسلامي ، إلا من قليل.
كل هذه الشواهد تدعو للإعتقاد بأن الشرق الأوسط قد دخل فعلياً في مرحلة اللاعودة ولن تكون المنطقة كما كانت قبل طوفان الأقصى وأن السلام والإستقرار في المنطقة باتا بعيدي المنال وأن السياسات السابقة لدول المنطقة لن تجد نفعاً في هذه الأوضاع المستجدة والتوتر الأخذ في الإتساع ، وعلى دول المنطقة التي تعتقد أنها بعيدة عن النيران المشتعلة أن تعيد حساباتها ، فنيران الحروب عندما تشتعل لا يمكن التنبؤ بنهايتها ودائماً ما تحفل بالمفاجاءات التي ربما تغير مجرى التاريخ ، وربما يصدق في هذا الشأن مقولة الجنرال والمؤرخ الالماني الشهير كارل فون كلاوفيتز(1780-1831) في كتابه المرجعي العسكري والاستراتيجي (في الحرب on war) حيث قال (الحرب عامل حاسم في تحديد مسار التاريخ والحضارات ، وهي اللحظة الحاسمة للمرور من مرحلة تاريخية الى أخرى).
فإسرائيل بعمليات الإبادة التي تمارسها في حق الشعب الفلسطيني وإنتهاكاتها المتكررة للقوانين والأعراف الدولية وتجاهالها لكل قرارات المنظمات الدولية أصبحت مستحقة بجدارة لوصف (الدولة المارقة) ، ولن يكون في وسع أي جهة أو دولة أن تكون شريكاً لها في أي عملية سياسية جادة أو ان تدخل معها في أي نوع من الإتفاقيات أو المعاهدات ، فهي مستعدة دائماً لنقض كل إتفاقية وتجاوز كل الخطوط الحمراء مدفوعة برؤيتها التوسعية.