رأي

هل يعيد التاربخ نفسه؟: دور الأمم المتحدة في انتقاص سيادة السودان

د. أحمد عبد الباقي

انطوت الكثير من قرارات مجلس المتعلقة بدارفور، في حقبة الإنقاذ، على العديد من المطالب التي من شأنها أن تقلص من سيطرة وسيادة حكومة السودان على أراضي دولتها، كما نلاحظ هنا مدى من المبالغة في إصدار القرارات، حيث أقدم مجلس الأمن على إصدار ثلاثة قرارات تتعلق بالوضع في دارفور خلال أسبوع واحد وهي القرارات رقم 1590 بتاريخ 24 مارس 2005م، لإنشاء بعثة الأمم المتحدة في السودان لضمان تنفيذ اتفاقية سلام الجنوب، والقرار رقم 1591 بتاريخ 29 مارس سنة 2005م لمعاقبة الأطراف في دارفور، والقرار رقم 1593 بتاريخ 31 مارس لسنة 2005م بشأن إحالة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور للمحكمة الجنائية الدولية.

لقد هدفت معظم هذه القرارات، وتلك اللاحقة إلى تدويل الأزمة حيث اصطحبت أيضاً في مضمونها أن الواقع في الإقليم يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين والتي عدت حديثاً أحد معايير التدخل في الشؤون الداخلية للدول، رغم مخالفتها لمواثيق الأمم المتحدة التي تنص على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، ويعد قرار مجلس الأمن رقم 1556 الذي صدر في 30 يوليو لعام 2004 م أكثر القرارات تأثيرا على السيادة الوطنية للسودان حيث ترتب على حيثياته أن ظل السودان تحت التهديد المستمر بالتدخل تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة منذ ذلك التاريخ، وكان أهم ما جاء في ذلك القرار: إلغاء جميع القيود التي يمكن أن تعيق تقديم المساعدات الإنسانية، توفير السبل للوصول إلى جميع السكان المتضررين، التحقيق المستمر في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي، تهيئة أجواء أمنية موثوق بها من أجل حماية السكان المدنيين والجهات الإنسانية الفاعلة، واستئناف المحادثات السياسية بشأن دارفور مع الجهات المنشقة في دارفور.

رغم أن القرار رقم 1556 يبدو في ظاهره مهتماً بالجانب الإنساني، إلا أن مقتضاه يعني دخول جميع الجهات الإنسانية الفاعلة أي المنظمات وغيرها دون قيد أو شرط أو مراقبة أو رصد، ويعني إلغاء القيود الجمركية والتفتيش أو الفحص الطبي أو المواصفات، وزيادة على ذلك ينص القرار على إيفاد مبعوثين دوليين وإقليميين ونشر مراقبين لحقوق الإنسان في المنطقة. وبالتالي يمكن القول إن هذا القرار يمثل انتهاكاً صارخاً لسيادة الدولة السودانية والأسوأ من ذلك أن السودان لا يستطيع المنازعة فيه؛ لأنه صادر من مجلس الأمن تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة أي أنه قرار ملزم للكافة، ويمكن تنفيذه قسريا، كما أنه جرى اُستغلاله من الدول الغربية تحت ذريعة التدخل الدولي الإنساني للانتقاص من سيادة السودان تحقيقياً للمصالح الغربية في المنطقة.

وقد تواصل التدخل الدولي الإنساني تحت ذريعة الغوث الإنساني وحقوق الإنسان والتحول الديمقراطي حتى بعد زوال نظام الإنقاذ في عام 2019م حيث صدر القرار 2524 الخاص من مجلس الأمن بتكوين بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة على دعم الفترة الانتقالية في السودان (UNITAMS) في عام 2020م التي بدأت نشاطها في يناير 2021، ولمدة 12 شهراً كمرحلة أولى قابلة للتجديد، إلا أن السودان نجح في إنهاء ولايتها وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2715 في 29 فبراير 2024م بعد أن أثبتت الحقائق على الأرض أنها تجاوزت تفويضها للمساعدة على تحول البلاد إلى حكم ديمقراطي، ودعم حماية وتعزيز حقوق الإنسان والسلام المستدام، وأصبحت جزءا من تعقيدات الوضع السياسي في السودان؛ مما كان سبباً في نشوب الحرب الحالية التي كان الاتفاق الإطاري الذي دعمته البعثة أحد المسببات الرئيسية لنشوبها في أبريل 2024م.

وما زالت محاولات الغرب وأمريكا وبعض دول الجوار والمنظمات الإقليمية التدخل في شؤون السودان الداخلية تحت ذريعة الإغاثة الإنسانية مستمرة للتأثير في مجريات الحرب الحالية خدمة لمصالح الجهات المذكورة، كما يُستشف ذلك من بعض مواقفها تجاه الوقوف ضد جرائم متمردي الدعم السريع مثل الموقف من اتفاق جدة الموقع في مايو 2023م، مروراً بمبادرة دول الجوار في مصر وفي تشاد، وصولاً إلى مفاوضات جنيف (1) غير المباشرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة في 11-18 يوليو 2024م، بهدف – كما يدعون – تقديم المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين، وفقاً لتكليف مجلس الأمن الدولي لرمطان لعمامرة المبعوث الأممي الخاص بالسودان استناداً على القرارين رقم 2724 (2024)، و2736 (2024) الصادرين عن المجلس، لاستكمال وتنسيق جهود السلام الإقليمية، ثم جنيف (2) في 14 أغسطس 20224م بوساطة أمريكية اضطلع بها المبعوث الأمريكي للسودان بمشاركة مصر والإمارات والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) لإجراء مشاورات بشأن خريطة طريق لوقف العنف وتوصيل المساعدات الإنسانية، ولكنها فشلت بسبب رفض السودان للمشاركة فيها و دعوته إلى الالتزام بمخرجات اتفاق جدة أولاً وخروج المتمردين من الأعيان المدنية.

لقد ظل السودان منذ عام 2004 تحت التهديد المستمر بالتدخل تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كما أن طلب محاكمة أفراد سودانيين متهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية ينطوي على انتهاك للولاية القضائية للدولة السودانية؛ لأن الأصل أن يحاكموا داخل السودان وبواسطة القضاء السوداني وأن مجرد تحويلهم للمحكمة الجنائية الدولية يعني اتهام القضاء السوداني بالعجز أو السلطة بعدم الرغبة في محاكمتهم؛ مما يعد انتهاكا صارخا لسيادة السودان، رغم أنه ليس موقعاً على ميثاق روما للمصادقة على المحكمة الجنائية، ويمثل التدخل تحت ذريعة حقوق الإنسان – كما دلت تجارب السودان وغيره من دول العالم – أن معيار العدالة الدولية انتقائي، ويستهدف الأفارقة والدليل على ذلك أن الحالات الأربع التي تنظرها فيها المحكمة الجنائية الدولية بجانب السودان ترتبط بدول إفريقية مثل أوغندا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، جمهورية أفريقيا الوسطى في حين أنه قُدم للمحكمة أكثر من 139 قضية خاصة بالجرائم، ورفضتها بحجة أنها تخرج عن ولاية المحكمة، ولعل من أبرز القضايا التي رفضتها، قضية انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأمريكية والإسرائيلية في كل من العراق وغزة حتى تاريخه في الحرب الحالية.

تمارس أمريكا والغرب النفاق وازدواجية المعايير في التعامل مع الإغاثة الإنسانية في السودان، ففي الوقت الذي تجأر فيه هذه الدول بالشكوى من تدهور الأوضاع الإنسانية في السودان بسبب الحرب الحالية وادعاء المجاعة، تمارس ذات الدول النفاق، وتذرف دموع التماسيح، حينما تفرض عقوبات على شركة زادنا المملوكة لحكومة السودان، والتي تعتبر من أكبر الشركات الداعمة للأمن الغذائي في السودان وبدلاً عن مساعدتها ودعمها إن كانوا صادقين في توفير الغذاء ومحاربة الجوع، كبلوها بقيود وبعقوبات صادرة عن أمريكا والاتحاد الأوربي بالقرار رقم 2147/2023 بتاريخ 22 يناير 2024م الصادر عن الاتحاد الأوربي، والأمر الإداري بتاريخ 4 مايو 2023 عن مكتب إدارة الأصول الأجنبية بالخزانة الأمريكية علي التوالي، وأدل وصف لتحامل الغرب على السودان وتدخله السافر في شؤون البلاد منتقصاً سيادتها المقال الذي نشرته مجلة السياسية الخارجية الأمريكية (Foreign Policy) ونشر بتاريخ 3 مايو 2022م، تحت عنوان:

How the U.N. and the West Failed Sudan

Self-delusion and negligence stopped governments and aid agencies from facilitating a genuine and, Lasting transition to democracy.

يمكن القول إجمالاً بأن الفعل الدولي في المنظمات الدولية والإقليمية اتسم بالوقوع تحت تأثير القوى الغربية الضاغطة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي اتخذت التدخل الإنساني في شؤون السودان ليس من أجل التوصل إلى تسوية سلمية لمشاكل السودان في الجنوب أو دارفور أو دعم التحول المدني الديمقراطي المزعوم بعد ذهاب حكم الإنقاذ في عام 2019م، بل هو حيلة لتحقيق مصالح القوى الكبرى باستغلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية وبعض منظمات الإغاثة الإنسانية عبر عدة حيل مثل عملية قوس قزح في 1986م وشريان الحياة في 1989م، والعملية المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (المعروفة اختصارا بـ(يوناميد) 2007-2020م، ثم تلتها بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة على دعم الفترة الانتقالية في السودان (UNITAMS) 2024-2021م.

ولا يمكن النظر إلى اتفاق جدة في 2023م ومحادثات جنيف (1) حول الشأن الإنساني وجنيف (2) في أغسطس عام 2024م بمعزل عن تلك المحاولات، فهل يعي الشعب السوداني وأحزابه السياسية وقواه المدنية وقيادة قواته المسلحة الدرس ثم يجدوا في التعامل مع تلك التدخلات؟

من هنا يتبين أن الحل يكمن في وحدة الجبهة الداخلية ووقوفها سداً منيعاً ضد مخططات الخارج والسعي للوفاق بين جميع مكونات المجتمع السوداني لبناء دولة جديدة على عقد اجتماعي جامع وأسس متفق عليها تراعي كل المشاكل الداخلية المذكورة والتعامل مع المتغيرات الخارجية على مستوى العلاقات الدولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى