رأي

أسبوعان في بورتسودان: عن المدينة التي بسببها قامت الحرب (3-3) !!

العبيد أحمد مروح

قبل ما يزيد عن الواحد وعشرين عاماً، قررت وزارة الإعلام في السودان  بالتنسيق مع وزارة الخارجية، التوسع في عدد الملحقيات الإعلامية في الخارج، ومن بين المناطق التي تمّ إقرار إقامة ملحقية إعلامية فيها هي منطقة الخليج، وقد وقع الاختيار على دولة الإمارات، وكان تقدير وزير الإعلام حينها – الأستاذ مهدي إبراهيم – أن تكون إمارة دبي مقراً للملحقية الإعلامية خلافاً لما جرت عليه العادة في مثل هذه الحالات، وهو أن تكون العاصمة – أبو ظبي – هي المقر، فقد شرعت دبي قبل ذلك بوقت في تسمية وتأسيس منطقة حرة لا تخضع لقوانين الدولة، وأقامت عليها ميناءً حراً ومدينة للإنترنت وأخرى للإعلام، تستضيف فيهما كبرى شركات الإنترنت في العالم وكبرى المحطات الفضائية والمؤسسات الإعلامية، وأتاحت لهذه كلها قدراً واسعاً من الحرية والمرونة،  بخلاف ما يجري عليه الحال في بقية أنحاء الدولة.

جئت إلى دبي، في مهمة تأسيس وعمل، وتصادف وصولي مع اكتمال ترتيبات انطلاق قناة العربية من مدينة دبي للإعلام، ضمن مجموعة إم بي سي التي انتقلت إليها من بريطانيا، وتصادف كذلك – وإن لم يكن ظاهراً – مع قرب اكتمال ترتيبات الغزو الأمريكي للعراق في مارس من العام 2003، وكان من ضمن برنامج عملي التأسيسي، التعريف بوجود الملحقية، ضمن طاقم القنصلية العامة في دبي والبعثة الدبلوماسية في الدولة، وكذلك التعرف على مؤسسات الدولة المعنية بشأن الإعلام والثقافة.
وفي هذا الإطار طلبت زيارة مدينة دبي للإعلام وتمت الاستجابة للطلب، فذهبت وجلست إلى فريق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم المعني بالتعريف بالمنطقة الحرة .. كان الشيخ محمد وقتها ولياً للعهد في الإمارة وكان الشيخ زايد رحمه الله على قيد الحياة وتبدو أبو ظبي محافظة على سمتها الوقور ودورها القومي والإنساني، وغير طموحة سياسياً.

كانت المنطقة الحرة في دبي تشمل ميناء جبل علي ومدينة دبي للإعلام ومدينة الإنترنت وقرية المعرفة؛ ومما بقي في الذاكرة من الشرح الوافي الذي قدمه لي فريق العلاقات العامة بقيادة  “محمد كاهور”، أن الشيخ محمد بن راشد عندما اتخذ قراره بشأن الموضوع، عكف على اختيار فريق من الشباب الذين تمّ تأهيلهم علمياً وبعثهم إلى عدد من الدول الأوروبية والآسيوية للوقوف على تجاربها فعادوا بقدر وافر من المعرفة، وأن الإمارة تُعد نفسها لتصبح مركزاً مالياً عالمياً وعاصمة للمال في منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، وأشار مُحدثي إلى مبانٍ بحوارنا لم تكتمل بعد قائلاً إنه سيُقام هنا “مركز دبي المالي” الذي من شأنه أن يربط الشرق الأقصى بالغرب الأقصى، بحيث حين تنام الأسواق في اليابان وهونغ كونغ، وقبل أن تصحو نيويورك ولندن، تكون بورصة دبي في قمة نشاطها !!

قال لي الشارح، وقتها، إن الشيخ محمد بن راشد لا ينظر إلى دبي على أنها “قطعة أرض صحراوية على جانب بحر مالح” وإنما يراها نقطة التقاء بين أكثر من أربعة مليارات من سكان العالم هم سكان قارتي آسيا وأفريقيا، بحيث تلتقي فيها مصالح التجار من الهند والسند والصين مع التجار من نيجيريا والسنغال وجنوب أفريقيا، وحتى البرازيل.

استوقفتني حينها فكرة تطويع الجغرافيا لصالح الطموح والنفوذ الإقتصادي، وبقيت وأنا هناك وحتى بعد انتهاء تكليفي أتابع تجربة الإمارات عموماً وألاحظ مدى التغيير الذي بدأ يحدث على نهج أبو ظبي عقب أن آلت ولاية العهد فيها لرئيس الدولة الحالي، وهو تغيير أعتقد أنه يستجيب لجملة من العناصر بينها التنافس على المستوى الداخلي (أبوظبي – دبي) وعلى المستوى شبه الإقليمي (منظومة دول مجلس التعاون الخليجي) وعلى مستوى خدمة المصالح الغربية والتماهي معها وفق الاستراتيجيات التي نتجت كردود فعل لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهذا حديث يطول، لكن الذي يهمني فيه هو أن تغييراً جوهرياً حدث في نهج دولة الإمارات في الحكم، ليس على المستوى الداخلي،  فذلك شأن يخصها، ولكن على المستويين الإقليمي والدولي وبدلاً من الطموح الإقتصادي الذي تميزت به دبي تداخل الإقتصادي والسياسي عند أبو ظبي وأضحى لديها اهتمام غير طبيعي لبسط نفوذها في مناطق شتى من العالم، وبرزت شركة موانئ أبو ظبي منافساً لموانئ دبي في الاستخواز على أكبر قدر من الشراكات مع الموانئ القائمة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكان من الطبيعي – والحال كذلك – أن تكون سواحل السودان على البحر الأحمر موضع اهتمام متزايد من قبل القيادة الإماراتية.

تتميز السواحل السودانية بموقع جغرافي فريد، ففي منتصف المسافة بين مضيق باب المندب في أقصى جنوب البحر الأحمر وبين قناة السويس في أقصى شماله، تقع مدينة وميناء بورتسودان، وهي بالمناسبة ليست الميناء الأقدم في السودان وليست الوحيد الآن،  فقد سبقتها سواكن التي كانت معبراً للحجاج من غرب أفريقيا وكانت أحد أهم موانئ التجارة بين شبه الجزيرة العربية وغرب أفريقيا.

وتمتد السواحل السودانية على الجهة الغربية من البحر الأحمر لنحو 780 كيلو متراً، في مواجهة السواحل السعودية، وتأتي في المرتبة الثانية بعد السواحل الاريترية من حيث الطول، ويلاحظ المرء هنا، قدراً من “الدغمسة” أو الغموض، حين يلجأ إلى محركات البحث ليتعرف على طول سواحل الدول المتشاطئة على البحر الأحمر، فهناك تبدو السواحل السودانية أقصر من المصرية، على أن هذا ليس مبحثنا الآن.

عبر قناة السويس في أقصى شماله، يربط البحر الأحمر بين البحر المتوسط حيث موانئ جنوب أوروبا وشمال أفريقيا وبين المحيط الهندي عبر خليج عدن وبحر العرب حيث موانئ شرق أفريقيا وجنوب غرب آسيا، ولهذا يكتسب البحر الأحمر أهميته الاقتصادية والعسكرية والأمنية، إذ يمر عبره أحد أكثر طرق الملاحة البحرية الدولية حيوية في العالم، وتعتبر الدول المشاطئة له من أهم المراكز العالمية لإنتاج موارد الطاقة، وتمثل مضائقه وجزره نقاطاً إستراتيجية أمنية، مما جعله موضع صراع إقليمي ومحل تنافس بين القوى العالمية الكبرى، ومركزاً لاحتشاد القواعد العسكرية،  ومع هذا أيضاً بقي محل اهتمام القوى الإقليمية الطامحة في أن يتوسع نفوذها الاقتصادي.

لقد زاد تمدد النفوذ الصيني في أفريقيا خلال العقدين الأخيرين، من حدة التنافس بين الأقطاب الدولية للهيمنة على طرق الملاحة وتأمين حركة النقل البحري عن طريق إقامة قواعد للأساطيل العسكرية في مواقع مختارة من الممرات المائية الدولية، وكانت السواحل السودانية، على الدوام، محط أنظار القوى الراغبة في توسيع نفوذها الاقتصادي وهيمنتها العسكرية، أصالة أو عبر وكلائها، وبالتالي لم يكن مستغرباً أن تكون كل من بورتسودان وسواكن محل إهتمام جهات متعددة بينها موانئ دبي العالمية وموانئ أبو ظبي، غير أن الفرق بين الاهتمامين، في تقديري، هو أن طموح دبي كان وما يزال طموحاً اقتصادياً في حين تحول الطموح الاقتصادي لأبو ظبي إلى رغبة جامحة في الهيمنة وبسط النفوذ السياسي، ويبدو أن ذلك تولّد بعدما رأى حاكم الدولة كيف أن قادة ورؤساء في أوروبا، وليس في أفريقيا فحسب، ينحنون أمام سلطة المال بشكل مذل، ويقدمون مصالحهم الشخصية على مصالح شعوبهم !!

بعد أن سقط نظام الإنقاذ في أبريل من العام  2019 خلا المسرح السياسي في السودان لوكلاء القوى الاستعمارية بشكل كامل، وأخذ كل واحد يسعى للحصول على أكبر قدر من المكاسب المتنوعة، واعتقدت أبو ظبي أن الفرصة واتتها للهيمنة على بورتسودان، لكن مسعاها الحثيث نحو هذا الهدف تعثر أكثر من مرة، و لأسباب كثيرة ومختلفة، فقررت أن تنشئ ميناءً قائماً بذاته في “أبو عمامه” وقدمت عرضاً مغرياً سال له لعاب الكثيرين ، وكادت الصفقة أن تكتمل، لولا العجلة التي هي من فعل الشيطان كما يقولون، والتي على ضوئها – كما يبدو – فضلت أن تؤول إليها كل “الكيكة” لا بعضها، وأن تنفرد بالنفوذ على ضفاف البحر وضفاف النيل حين تضع عملاءها على رأس السلطة في الخرطوم، فحدث ما حدث !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى