ملفات

أم درمان بعد الحرب: الجدران تتكلم والناس وناسة

الذاكرة السودانية.. ملفات تسجل زيارة جديدة إلى التاريخ بهدف استنباط عصر تدوين جديد للأحداث والقضايا والشخصيات السودانية

محمد الشيخ حسين

إذا كان الشاعر الفذ إبراهيم العبادي قد اختزل قديماً مرويات الحياة في أم درمان في عبارة (الناس وناسة طريت أم در حليل ناسا)، فإن أجواء ما بعد الحرب التي باتت نهايتها قريبة جداً، تطرح علينا أن نقدم أفكاراً جديدة على مشارف العودة المرتقبة للخرطوم.

من جهته يسعى الفنان التشيكلي المعروف عادل كبيدة حالياً إلى خلق مدينة جديدة من أم درمان تمتلئ حوائطها بالجداريات التي تتكلم وتملأ حياتنا بهجة بصرية تضفي المزيد من الأبعاد إلى أحلامنا وخيالنا.

ولا يعد الرسم الجداري عملا زخرفيا، بقدر ما هو رؤية تعبيرية في بقعة معينة يخرجنا من الحيز الذي نعيش فيه. ويصبح الرسم الجداري عند كبيدة في أفضل صوره حين يحقق استمرارا للتصميم المعماري الذي يعد مادة لتسجيل الحياة اليومية، ذلك لأن هذا الفن يعطي إيحاءات ليست موجودة في الواقع، حيث يمكن للفنان من خلاله أن يحول الجدار إلى لوحة مصورة تصبح مكوناتها جزءا من التصميم فيتفاعل معه، وفي العصر الحديث ومع المساحات المحدودة لمنازلنا، أصبح الرسم الجداري عنصرا فاعلا في معالجة ضيق الحيز المعماري.

تصاميم إسم الجلالة الجامعة الإسلامية كلية العمارة
تصاميم إسم الجلالة الجامعة الإسلامية كلية العمارة

أما أصل فكرة جدارية أم درمان (البقعة)، فتنطلق من الدور المهم الذي لعبته أم درمان في صياغة هوية وطنية لأبناء السودان وخلق ثقافة سودانية تلعب الدور الريادي في السياق المركزي للحوار الحضاري لثقافات الهامش السوداني التي هي الآن، حسب كبيدة، في ظلال الحداثة وتقنية الاتصال.

ويسعى كبيدة لاجترار تاريخ أم درمان في جدارياته عبر محاولات جادة تكمل ما بدأته المدينة من حوار ثقافي اتسم بالتسامح واحترام الآخر، على الرغم من كل التشوهات التي أحدثتها الحرب على أزقتها وحواريها باسم المدنية.

ويلفت كبيدة الأنظار إلى أن العمارة أول ما بدأت حركة التغيير، في انتزاع الألفة والسماحة في قلوب أبناء أم درمان. ومن هذه الالتفاتة يجتهد كبيدة على المشاركة عبر حداثة تحمل حواراً سمحا متكافئاً يُمكِّن أم درمان المدينة والإنسان من التواصل، لتلعب دورها في تأصيل وإزكاء الهوية العظيمة في أطر علمية وعملية.

مسلة العدالة شارع النيل الخرطوم
مسلة العدالة شارع النيل الخرطوم

وتفكيكا للغموض الذي يكتنف هذه اللفتة يشير  كبيدة إلى أن القيمة الفنية تستمد فاعليتها من التحامها بالمواطنين وعلى جدران منازلهم.

وهنا يبرز (الجدار) أولا كوسيط يساهم في صياغة وجدان الأمة ضد الاستلاب.

ويبرز (الجدار) ثانيا باعتباره من أهم الفنون المرئية تأثيرا على المتلقي عبر التاريخ إلى جانب دوره في صياغة الفكر الاجتماعي والسياسي للأمة.

ويصل بنا كبيدة إلى أن جداريات أم درمان تجربة فنية تشكيلية جديدة تأتي في سياقها العام من أجل:

(أ) تجديد الحوار بين المبدع المعاصر والوسيط الشعبي.

(ب) معالجة الفضاءات في مدينة أم درمان بصورة جمالية.

(ج) إذكاء الحوار بين الجماعات والثقافات التي استوطنت مدينة أمدرمان، وتحويل المدينة إلى متحف أنثربولوجي يمكن أبناء الحداثة من معرفة جذروهم وتأريخهم الاجتماعي والثقافي والسياسي.

(د) تمكين شباب الحي من أدواتهم التشكيلية لصياغة واقع جمالي وقيمي وأخلاقي جديد يناسب ثقافتهم المعاصرة.

كيف يمكن تنزيل هذه التجربة الفنية التشكيلية الجديدة على واقع  الجدران في مدينة أمدرمان؟

إجابة عن هذا السؤال، يحاول كبيدة في هذه التجربة المزاوجة بين أكثر من أسلوب فني من فنون الجدار:

(1) الفرسك وهو أسلوب تاريخي زخرت به الدولة النوبية والمسيحية في السودان.

(2) الموزايك وهو الأسلوب الذي جادت به العبقرية الإنسانية للفنان المسلم.

(3) الدهانات

(4) أعمال الحديد

(5) الاستفادة من الخردة والزلط.

تلك ملامح أم درمان عادل كبيدة، وأصل الحكاية أن الكثير من الفنانين التشكيليين يعتقدون  أن الرسم على الجدران هو أداة حضارية وثقافية مهمة، وهي بدرجة كبيرة أداة وطريقة للتواصل مع الجمهور، نظرا لأنها عمل يومي ومباشر وقريب منهم، إذ لا يمكن الرسم بعيدا عن أعين الناس، ولا يمكن للفنان أن يعتبر ما يؤديه من رسم على الجدار عملا سريا وخاصا.

ويدعم هذه التجربة أن الجدارية هي لوحة تخاطب جمهورا عاديا يختلف في توجهاته ومستوى ثقافته لذا يجب أن تكون لغتها بسيطة وواضحة. وعلى الفنان أن يستخدم رموزا يسهل فهمها والتعاطي معها دون تعقيد ومبالغة مراعيا في ذلك أنه يخاطب جمهورا عاما.

الجدارية هي أسهل وسيلة يمكن للفنان من خلالها أن يشارك مجتمعه وشعبه همومهم ومشاعرهم ويحيي معهم المناسبات التي يعتزون بها ويهتمون بإحيائها. إضافة إلى أن الجداريات تتمتع بالعديد من الميزات التي تجعلها تتقدم على غيرها ومن أهم هذه الميزات أنها عمل فني يشترك فيه عدد من الفنانين، إضافة إلى أن المواطن العادي لا يحتاج للتوجه لصالة عرض ليراها فهي موجودة على أحد الطرق العامة في مكان يسهل الوصول إليه وبالتالي يسهل الاطلاع عليها، ناهيك عن أنها وسيلة يشارك فيها الفنانون أبناء وطنهم في همومهم ومشاعرهم.

تصميمات جدارية فرسكو امدرمان ود البنا
تصميمات جدارية فرسكو امدرمان ود البنا

واقع الحال أن الفن الجداري أحد أهم السبل التي ستساعد الفنان في الوصول لجمهوره فعادة تكون اللوحة التشكيلية أسيرة المعارض والمتاحف.

أما الجداريات فهي لوحات طليقة يتسنى للجميع رؤيتها وتأملها، بل ومتابعة تطورها خطوة بخطوة حتى تصل لحد كونها جدارية متكاملة ناهيك عن أنها تتيح الفرصة أمام الفنان للتواصل مباشرة مع جمهوره الذي يمكنه أن يقترب منه ويراقبه وهو يعمل وسبيله نحو تحفيز أذهان المواطنين العاديين لتلقي رسالة الفنان الفنية الخالصة.

انبثاق الألوان

تأتي فكرة عادل كبيدة رسام العوالم الخرافية القادم من فريق ود البنا في أم درمان إلى العالم الجديد يحكي قصة الألوان عندما

تكشف تجربة عادل كبيدة الفريدة فيما رسمه من لوحات طوال عمره الفني، مدى العزلة النفسية التي عاشها الفنان في وطنه، وحاول أن يصنع من عزلته تلك لوحات تحاكي ما رسمه الأطفال وما فكروا به، وما عاشوه أيضا من أحلام وكوابيس، وما تخيلوه من فخاريات ورسوم على القرع، وأفكار طريفة للتعبير عن فرحهم، وأملهم بتحقيق ما يرغبون في تحقيقه، من خلال أبتكارهم ألعابا وأشكالا في غاية الطرافة، والإبداع.

الكتابة عن تجربة عادل كبيدة الفنية لا يمكن أن تحاط بعدد قليل من الصفحات، فالكتابة عن رسمه تحيلك فورا إلى علوم شتى وتجارب إنسانية غنية، وفنون شتى، فهي تجربة أطرها صانعها بثقافة موسوعية عن علم النفس والفلسفة، وثقافة فنية متراكمة، ودربة ومهارات على طرائق الرسم، وأستفادة مما تم أبتكاره خلال أربعة قرون من تأريخ الفن التشكيلي في العالم، وقد أعطى نتائج مثمرة أنغماسه العميق في عمله الفني، الذي يشبه تصوف المتصوفين، الذين ينسون كل شيء غير ذلك الذي أعتقدوا أنهم خلقوا من أجله، ذكر الله تعالى وعبادته، وتنزيهه، وترديد صفاته وخصاله المجيدة، وتمجيد ما خلق من جليل صنعه سماوات وعوالم وكواكب ومجرات، أنه يحاول في كل لوحة من لوحاته عكس هذه العلاقة، ورسم المخطوط على اللوحة، وربطه بصريا بما عاشه الفنان من أزمات نفسية وشعورية، وحاول التعبير عنها، بالخطوط والألوان، والأصوات التي تأتيك عبر لوحاته، فثمة أصوات طفولية تتخيلها، وهي تناديك عبر كل لوحة ويخيل لك أنك تسمعها واضحة كلما أوغلت في التجوال في بستان لوحاته، أنها تنقل لك خوفها وفرحها وأملها بالمستقبل وهواجسها وريبتها مما يحيط بها من مخلوقات حية في هذا العالم الواسع.

رؤية بصرية

عالم عادل كبيدة الفني عالم واسع كعالم الطفولة، وقد زينه بالكثير من خرافات الأهل وقصصهم الشعبية، وتجد فيه الموروثات الإسلامية واضحة، وبالذات تأثيرات رسم المنمنمات، وتزيين هوامش الكتب التراثية، وما تركه الأجداد من نقوش ورسومات، تظهر جانبا من ممارساتهم الحياتية والعقائدية، وكتاباتهم التصويرية، وفيها أيضا تجد ذلك التصدع الذي احدثته آلات ومبتكرات صناعية، فأحالت الحلم الطفولي إلى أستشراف مستقبلي لعوالم بعيدة عنا، وربما تقع في مجرات أخرى.

ومعظم لوحات الفنان كبيدة لا تجد فيها مساحة خالية من الرسم، فهو يرسم كل جزء من لوحته، فتزدحم لوحته عادة بالرسومات، التي تظن في البداية أنها رسمت أعتباطيا، ولكن حالما تدقق النظر فيها، تجد أنها تتكامل لتكون رؤية بصرية جمالية متكاملة، وغالبا ما تكون موضوعاتها، رؤية الأشباح والأحلام، والسباحة في الفضاء، والسفر إلى عوالم ميتافزيقية لا يمكن تخيلها إلا عبر الحلم والخيال الطفولي.

وربما تأثر الفنان كبيدة برسامي المدرسة الوحشية، أو أنه لم يتمثل لوحات غيره من فناني المدرسة  السريالية، ولم يشغل نفسه كثيرا بمدرسة الخرطوم أو الواحد، ولكنه تمثلهما بشكل مبدع وخلاق، فلوحاته تحمل خطوطه وأحلامه وكوابيسه، وكذلك مخلوقات يصنعها من  تأثيرات  الفن الفطري في الرسم العالمي، والكتابات الهيروغليفية القديمة، والوجوه السومرية والبابلية والأشورية.

إن صلات النشأة التي ربطت كبيدة بأم درمان جعلته يلتقي بمثقفين أصيلين في بقعة المهدي، وأن ينهل من تلك الثقافة ما وسعه، وجعلته ظروف الحرب التي عاشتها أم درمان يسعى إلى أن يعيد للمدينة نضارها عبر جدارية تجعل حوائط المدينة تتكلم والناس فيها أصلاً ونَّاسة.

وليت هذا السعي يصل إلى مسمع الرجل الصابر على محنة الحرب أحمد عثمان حمزة والي ولاية الخرطوم حفظه الله.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. فكرة رائعة من فنان مبدع تلقفها صحفي موهوب قادر علي تسويق الفكرة بما يرضي ذوق الجميع،،
    الفن رسالة سامية وعبره يمكن للتّأريخ أن يُدوِّنَ وقائع الحال، والنّاظر لأم درمان في هذه الحقبة مَثَّلت السّودان في أجمل لوحة من التّكاتف والتعاضد واللُّحمة الوطنيّة،
    نتمي أن نرى أم درمان والسّودان كما نحب وليس ذلك بعزيز علي الله،،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى