الأشجار لا تهاجر

وائل الكردي
(لا تحاول أن تحمل شجرتك معك إلى الغربة كي تحظى بظلها.. لأن الأشجار لا تهاجر)
اقتبسها (دريد لحام) عن اﻷديبة (غادة السمان) ليقول لنا، أن الأم إذا مرضت، هل نبدلها بغيرها أم نظل معها وبين يديها حتى تشفى؟ فكما أن الأم واحدة لا تتكرر ولا تُستبدل فالوطن أيضاً كذلك.. ومؤخراً كتب (أحمد الكردي) رحمه الله، عن الشجرة الأم وكيف أنها وقفت هناك عشرات السنين ليمر بها ملايين البشر من كل لون وملة بكل تجاربهم وخبراتهم وما لهم وما عليهم، ثم يرحلون، ليمر عليها بعدهم غيرهم.. وتظل هي واقفة صامتة شاهدة على مآسي البشر وأحزانهم وأفراحهم وضحكاتهم الصادقة والكاذبة والزيف فيهم والحقيقة..
هكذا هي أشجار الوطن الأم ترقب كل صغير وكل كبير وتشهد علينا بصمتها كما ستشهد علينا جلودنا بنطقها، ترى منا العذاب والألم الكثير ويمتلئ لحاؤها بضربات الفؤوس ولطمات العصي وطعن السكاكين وغرس المسامير، ولكنها لا تظهر أنينا ولا شكوى ولا تمنع ثمرها وظلها.. ورغم كل ذلك فإنها إذا مرضت يسارعون في الغالب إلى بترها أو اقتلاعها ليزرعوا مكانها جديداً، ولو أنهم صبروا واهتموا لربما تعافت من قريب.
هناك على شارع النيل أشجار تجاوزت أعمارها المئة ونيف ومازالت تقف قوية تحب هذه الأرض وتبذل فيها جهدها.. لذلك يتعلم أشبال الكشافة منذ نعومة أظفارهم أن يربوا أنفسهم على الشعار (ابذل جهدك) حتى ينمو الواحد فيهم وهاتف في أذنيه يطرق (ابذل جهدك) كلما هـَم بيأس من ضيق حال، وما دام في الجهد بقية تبذل فالتبذل.. ولكن من حسبوا أن الوطن بأشجاره هو من يجب أن يعطي ثمراً، ظلاً، حطباً.. وأن الإنسان هو فقط من يأخذ، فأولئك لم يكونوا يوماً من أشبال الكشافة وهم أول مَن يقطعون جذورهم ويستبدلوه بغيره وهم يلقون وراء ظهورهم للناس هنا بكلمة جارحة (تلك الحفرة.. تركناها لكم) ، ولكن ما أعظم هذه الحفرة حينما تخبئ الإنسان في جوفها حال انهمار الرصاص وهطول القذائف، وما أعظم جرم هؤلاء فإنهم يقتلون الوطن بكلماتهم، أمَا كان لهم أن يرحلوا بصمت ولا ضرر ولا ضرار..
ثم يأتي بعد ذلك في المحافل مًن يُصدر أحكامه على الناس إخوته في الوطن بأنهم، كلهم أو جلهم، كذابون غشاشون قساة منافقون طماعون.. ألا إنه هو كذلك أراد الناس كلهم مثله.. هل كل الذين يمشون على التراب العيي هم كذلك، هل كل الكادحين الصابرين الحامدين لرزقهم الضئيل هم كذلك، هل كل العابدين الساجدين لربهم في الجوامع واخبية الدور هم كذلك، هل كل القابضين على الجمر بأيديهم يتوجعون بصمت وبغير شكوى هم كذلك، هل كل من هب ثائراً لأجل وطنه واحتضن الأشجار بدمائه ومات تحتها هو كذلك، ما لكم كيف تحكمون.. ألم يقل الله تعالى (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، وليس الزبد الكثيف على وجه البحر بشيء أمام كنوز الأرض عدداً وقيمة، والناس في بلادي فيهم من هو كزبد البحر وفيهم أيضاً مَن هو كنز من كنوز الأرض، ولكننا فقط نسارع إلى اليأس وإسقاط الهمة بهول مرأى الزبد في كثرته فنحسب أنه الأصل في الناس والمجتمع ولا ندرك أن هذا الزبد راحل وغير مستقر، وأنه علينا أن نكابد مشقة الغوص إلى ما ينفع الناس تحت هذا الزبد الراحل وذلك هو الكبد الرسالي المثمر، فإذا رحلنا معه إلى بلاد جديدة لنزرع فيها أشجارنا لربما وجدنا أنفسنا هناك أجسام شاذة دخيلة لا يحسب القوم فيها لنا حساباً ولا تصبح يوماً هي وطن، وسنكابد أيضاً ولكن فقط لأجل أن نطعم ونشرب كما البهائم والأنعام..
ولعلي لا أكون مخطئاً إذا قلت أن الله خلق لنا الأوطان لكي تكون محطاً وحقلاً لرسالتنا في الحياة وعطائنا وكبدنا وليس لكي ننتظر منها أن تعطينا هي، فبأي شيء إذاً سيكون الفوز في الدار الآخرة إذا ظللنا نُعطى ولا نعطي..
أما عن هذا الزبد من الناس الذي يذهب جفاء على وجه الأوطان فهم أولئك الضائعين بجرمهم كمثل شخصية (العم بيو) في رواية (جسر سان لويس ري) لمؤلفها (ثورنتون وايلدر) حيث جاء في سيرته السيئة (ويقف بأبواب الفنادق الراقية ليهمس إلى المسافرين ببعض الأنباء ولم تكن خديعته لهؤلاء المسافرين تزيد في بعض الأحيان على أن يخبرهم أن بيتاً نبيلاً قد اضطر إلى بيع صحافه الفضية. وهكذا يقبض ثمن الخديعة من الصائغ صاحب تلك الصحاف، وكان كثير التردد على جميع المسارح ويستطيع أن يصفق كما يصفق عشرة مجتمعون. وكان ينشر الفضائح ويبيع ما يدور حول المحصولات الزراعية وأثمان الأراضي من شائعات. وبين العشرين والثلاثين أصبحت خدماته معترفاً بها في الدوائر العليا، فأرسلته الحكومة إلى المناطق الجبلية ليثبط من عزيمة بعض الثوار المترددين، إلى أن تصل قوات الحكومة فتسحقهم بلا تردد).. فأمثال هذا إذاً ليسوا أبناء شرعيين لأوطانهم ويكون من الخير لهذه الأوطان رحيلهم كرحيل الزبد..
لقد أذن الله للقلة المستضعفين من الناس لا يملكون قوة ولا حيلة بالهجرة في الأرض، ولكن إذا صار أكثر الشعب تحت ضيق العيش والفقر وقهر السلطة وأصبح المال دولة بين القلة الغنية فهنا يتطلب الأمر جهاداً وثورة، ثورة على طغيان السلطة الغاشمة فالحاكم إن قتل وسفك الدماء وسرق المال العام وأفسد في الأرض خرج من حاكميته ولم تبق له في عنق أحد منهم بيعة إلا لدى من حذا حذوه وانتفع بفعله.. وثورة أخرى بضرب المعاول على الأرض لتنبت البترول الأخضر.. وثورة غيرها على اهلاك الحرث والنسل بالتلوث البيئي جراء استعمال طاقة المحروقات واستبدالها بطاقة الشمس والماء.. ولنضع أخيرا في أحد الأرفف أو الأركان البعيدة قول الشاعر (نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا) وأن نستعمل قول الرسول العظيم (أمتي كالمطر، لا يدرى، الخير في أوله أم في آخره).