رأي

الإنسانية تتحدى الإنسان .. في دراما “الرجل الذي عرف اللانهائية”

أيام الحرب العالمية الاولى .. في فيلم الدراما الواقعي (The man who knew infinity) انتبه كل الناس إلى عبقرية وسمو عالم الرياضيات الهندي (رامانوجان) وإلى إنجازه العلمي الخارق كأساس فيه.. ولكن هناك زاوية أظهرتها الدراما لا تقل أهمية مطلقا عن هذا الأساس، وهي موقف البروفسور (هاردي) عالم الرياضيات البارز في كلية ترنتي Trinty college في تصديه لحاملي العرف الأكاديمي الصارم دفاعاَ عن العبقري الهندي ضد تيار العنصرية الساحق تجاه غير الأوروبيين والذي بلغ أوجه في بريطانيا آنذاك، حتى استطاع أن يحول كل هذا التيار إلى صالحه بأن حصل له تحت هذا الظرف على زمالة الجمعية الملكية البريطانية ومن ثم عضوية كلية ترنتي الشهيرة وأن يمشي على البساط الأخضر ككل أعضاء الكلية العظماء، فيما كان يبدو ذلك مستحيلاً بإطلاق..

ظهر هذا أولا منذ المشهد الذي تلقى فيه هاردي خطاب رمانوجان.. ثم العمل معا تجاذباَ وتنافراَ.. ثم زروة الحدث عندما عانقه مودعاً إياه للعودة إلى بلاده (مادراس – الهند) مؤكدا لنفسه أن علاقته برامانوجان كانت هي الحدث الرومانسي الأوحد الذي حصل له في كل حياته.. ثم كانت لحظة الحقيقة عندما ألقى كلمته متأثراَ في محفل ترنتي لتأبين رمانوجان الذي أخذه الموت باكراَ، حينها أبان عن فخره العميق أنه من دون كافة العلماء قد زامل رامانوجان وأنهما عملا معا.

وهكذا، توجد المتضادات دائما في كل شيء .. فكثيراَ ما تأتي المقاومة الانسانية ضد القوة الباطشة من عناصر داخلها. وأن تيار الإنسانية مع قوة الفطرة السليمة زائدا العقل المنطقي اللامع يجعل الإنسان الذي يحمل هذا غير مستسلم للظلم الإنساني المجتمعي الذي يمارسه قومه ضد آخرين، حتى ولو كان قد تربى عليه ونشأ فيه.. ألم يصدق فينا قول الرسول محمد عن كفار قومه (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا). فليست إذاَ التربية هي البوصلة الوحيدة الموجهة لحركة الإنسان في حياته، ولكن التربية مع ترويض الإرادة تفعل ذلك. الكثيرون يقومون بعملية التربية لأبنائهم ولكنهم لا ينتبهون إلى – وإن انتبهوا لا يستطيعون – ترويض الإرادة فيهم.. ويبدو أن هناك نوعاً من التنوير الذاتي المسمى (الضمير) مجهول المصدر داخل كل إنسان هو الذي يعمل على توجيه إرادته وترويضها باتجاه معين، ويقوى هذا التنوير أو تضعف قوته بقدر القرب من (المقدس) الحق، أي ما يتقدس في عقل الانسان ووجدانه .. فالبروفسور هاردي كان ملحداَ حاد الالحاد ولكن هذا التنوير الذاتي سرى في دمائه بقوة لأن الله المقدس كان موجوداَ في أعماق نفسه ولكن فقط إن الإثبات الرياضي والحجة المنطقية المادية وعوامل التربية التجربيبة التي اتسم بها الوعي الانجليزي كانت تغلب على قناعاته وتطغى على عينيه ، ولهذا بدا الصراع في نفسه بين هذا وذاك ساكنا في الظاهر، ثائرا في الخفاء، ولكنه ظل متغافلاَ عنه. إلى أن أتاه رامانوجان بعبقرية رياضية مزهلة وفتح منفذاً للثورة على الإلحاد في نفس هاردي بأن زعم أنه لا يعرف كيف تتألف المعادلات في عقله، فهو يجدها هكذا إلهاماَ، وان الرب هو الذي يضع الصيغ الرياضية في ذهنه فلا يجد قيمة وصدقاَ لمعادلاته إلا لو كانت تعبر فكرة الله).. وعلى هذا، فشدة ارتباط هاردي برامانوجان بعد ذاك لم تكن بسبب الابداع الرياضي وحده وإنما أيضا بما كان يشعله هذا الارتباط في نفس هاردي من تحريض للتنوير الذاتي نحو تحرير الإرادة لديه كي لا تظل أسيرة لعوامل تربيته.. ولقد دفعه هذا الشعور التنويري بالمقدس الخفي في داخله والذي روضته العلاقة برامانوجان إلى أن يعترف أمام علماء الجمعية الملكية وهو بصدد الدفاع عن أحقية وأهلية رامانوجان لنيل الزمالة فيها بكونه قد أسهم بإنجازه الرياضي في تحقيق شيئ من الحلم الإنساني الخرافي لبلوغ اللانهائية الأمر الذي جعل من رامانوجان هو بذاته حالة روحانية مجردة، ليقول (وها أنا في الأخير، قد صرت على يقين، أننا مَن نحن حتى نمتحن رامانوجان.. ناهيك عن الله).. هكذا، تتحدى الانسانية (أي الضمير) في داخل الإنسان هذا الإنسان نفسه وارادته وتبقيه في كبد الصراع إلى أن يرى الحق في نفسه وفي الكون. فما بالنا وقد أعطانا الله هذا (المقدس) الحق كتاباَ بين ايدينا نقرأه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى