رأي

الدولة الفيدرالية والمركزية الاستلابية

دكتور حسن عيسى الطالب

المرحلة القادمة لإدارة دولة ما بعد معركة الكرامة والتحرير، تتطلب كضرورة حتمية، تغيير طبيعة وشكل الدولة السودانية الخالفة والموروثة خلال مرحلة ما بعد الغزو والاستعمار الخديوي – الإنجليزي..
هذه هي المسألة الملحة حاليا، والتي يتعين عبرها فقط استيفاء متطلبات ومسؤوليات مرحلة ما بعد حرب الكرامة.

ويرجع تاريخ اختطاف الدولة السودانية مذ تدمير هيكل الدولة القائمة على مدى ثلاثة قرون متصلة، فدُمرت وتلاشت فعليا عبر الغزو الخديوي عام 1820م، والذي جاء بمباركة دول الغرب المسيحي الاستعماري، والمتماهي مع تآمر وطموحات الخديوي محمد علي باشا، الذي شق عصا الطاعة على الباب العالي (مركز السلطنة العثمانية في اسطنبول) لخدمة استراتيجيته طويلة الأمد في السيطرة على المنطقة، ووقف المد الإسلامي في القارة الأفريقية.
ولذلك شارك في حملة الغزو الخديوي على السودان ضباط من الأمريكان والإنجليز والنمساويين والألمان، مثل جورج انجليش، وجيسي، وسلاطين والخ.. ثم تتابع المخطط التآمري في نسخته التالية بتواطؤ الخديوي توفيق باشا مع الإنجليز، لدعمه في هزيمة مشروع عرابي الاستقلالي التحرري، ثم نفيه لسيرلانكا، وتشتيت القوى الوطنية المساندة، وحل الجيش المصري، وتشكيل جيش من المرتزقة والموالين من العملاء بقيادة انجليزية على رأسها الجنرال غرينفيل، وهي التي مهدت لغزو السودان بقيادة اللورد كرومر والجنرال كتشنر، بعد نجاح الثورة المهدية واستعادة الدولة الوطنية عبر الثورة الشعبية.

ما نجح الاستعمار فيه استراتيجياً على مدى سبعة عقود وأقعد السودان منذ القرن التاسع عشر جاء عبر تغيير شكل الدولة الوطنية، التي نشأت واستمرت بكفاءة واستقلالية ريادية مشهودة، وعلى مدى ثلاثة قرون، كإتحاد كونفيدرالي/ فيدرالي، تشكل نسيجه بتوافق عفوي من تلقاء توافق المصالح المشتركة للممالك المستقلة، ومنظومات الحكم الأهلية، والمشيخات القبلية، التي عهدها السودانيون وارتضوها من لدن السلطنة الزرقاء، وسلطنتي دارفور، وتقلي، وملوك الشايقية والجعليين والميرفاب والمحس والسكوت والدناقلة، ومشيخات قرِّي والعبدلاب والبجة.

ولكن عندما فُرضت المركزية القهرية كنظام للحكم الاستعماري، بغرض تكريس سلطانه، وتغيير طبيعة وشكل الدولة التاريخية، مهد ذلك لطغيان الفرد الحاكم المستبد واستدامته، وإلغاء المشاركة القبلية والأهلية في هرم السلطة وإدارة الدولة، ولا في انتاج واقتسام الثروة. ومن ثم تفشى الفشل المستدام في إدارة التنوع وتحقيق الرضى الجمعي على مستوى البلاد، فنشأ الصراع بين المركز والأطراف، فأضحت الانقلابات العسكرية، والانتفاضات الجهوية التمردية المسلحة، هي الطريق الأوحد والمتاح عمليا لتداول السلطة المستلبة، وفرض نظام الحكم الاستلابي القهري الذي رزء به السودان على مدى ستة عقود، ومنذ انقلاب الجنرال إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958م. فأضحى ذلك النمط من الحكم مظهر الفشل، ومحفّز الصراع السياسي والإثني والجهوي بين مؤيدي المركزية الاستعمارية المفروضة، والرافضين لها المطالبين بالرجوع لشكل وطبيعة الدولة التاريخية المستلبة بفروض وإملاءات الغزو الخارجي.

فهل يتم التغيير في الأنفس ليغيّر الله ما حاق بالوطن، وكما تقتضيه أقدار التبديل ومحكم التنزيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى