رأي

الدولة الوطنية والذكرى المنسية

د. حسن عيسى الطالب

يمثل يوم 24 نوفمبر 2024م، الذكرى الخامسة والعشرين بعد المئة، لاستشهاد قادة الدولة المهدية؛ الذين قتلوا بدم بارد، في مثل هذا اليوم من عام 1899م الذي صادف الجمعة.

ويظل ذلك المشهد ومراقد الشهداء الذين صنعوه، معلماً تاريخياً ووطنياً ساطعاً، لا يمكن المرور عليه ولا تجاوزه من أي سوداني وطني غيور، دون انحناءة تقدير وثناء لمن استرخصوا الأرواح والأنفس، ليعيش أحفادهم من بعدهم أحراراً مستقلين، وسادة أباة غير مستعمَرين. إذ هو اليوم الذي اغتيل فيه رئيس حكومة المهدية، وخليفة الإمام محمد أحمد المهدي، مجدد القرن الرابع عشر الهجري، ومحرر دولة السودان من الإستعمار الخديوي، وهازم قادة الجيوش الإنجليزية النظامية. فبمجاهداته أصبح السودان أول دولة أفريقية تخطّ مسار العزة والسيادة لدول القارة قاطبة، في وقت كانت تجارة الرقيق التي يديرها الأوروبيون تجوب شواطئ غربي أفريقيا والمحيط الأطلسي والكاريبي، بعد أن استعمرت جيوشهم الشعوب الأفريقية وتمارس الإبادة المنهجية عليهم.

كان الخليفة عبد الله بن محمد تورشين، المشهور بالتعايشي، هو رئيس دولة السودان، التي استقلت بالكامل بعد تصفية الجنرال شارلز غردون، الحاكم العام، في قصره في الخرطوم بتاريخ 26 يناير 1885م، بعد أن رفض الاستسلام وهو محاصر بما يقرب من مائة وعشرين ألف من الثوار. وكان غردون هو الحاكم المعيَّن من الدولة الخديوية المتآمرة مع انجلترا وعدد من الدول الاستعمارية لحكم السودان بالوكالة. وكان القائد الإستعماري الذي قتل التعايشي هو الجنرال الإنجليزي ريجنالد وينجيت. فقتله بدم بارد في منطقة أم دبيكرات القريبة، من مدينة ربك، وفيها مرقده ورفاقه الشهداء. وكان الخليفة قد انسحب بعدد من المجاهدين الذين قاتلوا معه في كرري إلى منطقة الغبشة، القريبة من مدينة الرهد، بولاية شمال كردفان حاليا؛ في سبتمبر 1899 وبعد دخول الجنرال هربرت كتشنر، القائد العام، بجيش مكون بأكثر من 25 ألف، مسلحين بأحدث البنادق، وبإستخدام مدافع المكسيم والهاوتزر لأول مرة في المعركة، بينما كان نصف جيش المهدية يتسلح ببنادق الرومنتون البالية التي غنموها من جيوش الخديوية المهزومة التي ظلت تحتل البلاد منذ عام 1820م؛ وكان النصف الآخر من المجاهدين في جيش المهدية بالأسلحة البيضاء؛ فاستشهد في معركة كرري ما لايقل عن 25 ألفاً من جيوش المهدية مع عشرات الآلاف من الجرحى الذين تم الإجهاز عليهم في ساحة المعركة.

أضاف اغتيال الخليفة ووزرائه بدم بارد في أم دبيكرات فصلاً جديداً لجرائم الاحتلال الإنجليزي الذي سُمّي زوراً وبهتاناً بالفتح الثنائي. وترمز “الثنائية” لحكومتيَ مصر الخديوية وانجلترا الإمبراطورية. وهذا تدليس ماكر ظلت تقترفه أجهزة الاستخبارات البريطانية بإحترافية، إذ كانت دعايتها في أوروبا تزعم أن المهدي هو مجرد تاجر رقيق، وصوفي مهووس، حاقد على المسيحية، وأنه مجرم حرب رهيب، ودجال مريب. والحقيقية هي أن الخديوي توفيق، الذي تم في عهده وبموالاته وتواطؤه مع الإنجليز قمع ثورة الشعب المصري، إبان تولي أحمد عرابي وزارة الدفاع ومنصب القائد العام للجيش.

وكان عرابي يطالب بمساواة المصريين في الرتب والامتيازات العسكرية والوظيفية بالأجانب والمرتزقة المجلوبين، وخاصة من غير المسلمين. فتم القبض عليه عام 1882م بعد هزيمة الجيش المصري في معركة التل الكبير، وتم نفيه إلى سيرلانكا. فقام الإنجليز بحل الجيش المصري، وتعيين الجنرال الإنجليزي غرانفيل قائداً عاماً مكان أحمد عرابي. فقام بتشكيل جيش جديد من المتطوعين من الموالين، وبالتواطؤ مع الخديوي توفيق، الذي عزم على الإنشقاق عن السلطنة العثمانية في اسطنبول. وكان السلطان العثماني عبد الحميد يقف إلى جانب الثوار ولكن دون جدوى. إذ كان الخديوي توفيق طامعاً في الإستئثار بحكم مصر والسودان، وتكريس حكم آل محمد علي، واقتسام باقي مستعمرات الخلافة مع من يتحالف معه من الإنجليز والإيطاليين والفرنسيين. فتم استجلاب الجنود من انجلترا ومستعمراتها في قبرص والهند وسيرلانكا وغيرها.

لقد أضحت الخديوية بسلوكها الخياني والتآمري سبباً مباشراً في ضعف وتلاشي الخلافة العثمانية، واستعمار الدول الإسلامية التي كانت تحت حمايتها ورعايتها؛ فأفضى ذلك لاستشراء الاستعمار الأوروبي في كل المنطقة الممتدة من سواحل البحر الأحمر والحجاز وسوريا ولبنان وفلسطين ودول سواحل البحر الأبيض المتوسط من ليبيا إلى الجزائر.

هذه حقائق تاريخية راسخة يجب أن يعلمها السودانيون، الذين تم تدريسهم التاريخ المزوّر وفق المنهج الذي وضعه المستر كيري، وزير التعليم الذي عيّنه الحاكم العام للسودان “وينجيت” في بداية الحكم الإستعماري ومدير مخابرات الجيش الإنجليزي الغازي. فهذا تدليس واضح، وتزوير فاضح لتاريخ السودان السياسي، قُصد منه دق إسفين يحرم التقاء الشعبين وتوحيد جهودهما للتعاون المشترك، وذلك بطمس تاريخ راسخ ومثبت، ظلت فيه العلاقات مع مصر والسودان تتنامى على مدى تسعة آلاف سنة ويزيد؛ من لدن آثار الحضارات التراكمية الموثوقة، ورموزها الشامخة، وإهراماتها العتيقة في البركل وكرمة وكوش ونبتة ومروي؛ ومنها أن الأسر الحاكمة الفرعونية والنوبية في البلدين، كانت تتبادل الحكم في أسفل وادي النيل وأعاليه؛ وتقاتل معاً عندما كان يغزوها عدو مشتترك كالفرس أيام قومبيز أو الأشوريون أو الرومان أو الإغريق والبطالسة. وظل ذلك ديدن حكام وادي النيل في العصور المتأخرة؛ وبرز ذلك التضامن عندما تعرضت مصر لغزو إسرائيل الغاشم في يونيو عام 1967م فشارك السودان في الدفاع عن مصر بجنوده، وفتحت مطارات البلاد للجيش المصري؛ وظلت القوات السودانية مرابطة في قناة السويس وحمايتها، وأصبحت منطقة حلايب نقطة رقابة وإسناد للجيش المصري حتى حقق الإنتصار في أكتوبر عام 1973م.

فالحقيقة المثبتة تاريخياً هي أن مصر إبان الغزو الثنائي لم تكن دولة حرة مستقلة الإرادة يحكمها أبناؤها الوطنيون. فلم يتسن لشعب مصر الحكم الوطني إلا بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة الضباط الأحرار – محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات – وكانت علاقات الأول والثالث الرحمية مع السودان سبباً في توافق العلاقات بين البلدين عشية الاستقلال. فكان قادة ثورة يوليو إصلاحيون وطنيون، فأسهموا في الضغط على انجلترا بالموافقة على منح السودان الاستقلال، بعد أن كان الخديوي عباس حلمي يريده ولاية تحت سيطرته وسطوة أسرته، يحكمها الإنجليز بالوكالة. فلما عكّرت الثورة المصرية مزاج الاستعمار، الذي كان يختبئ وراء الخديوي عباس حلمي، وقلبت الموازين وأجهضت أجندته في المنطقة، ثم أتبعت ذلك بقرار استعادة سيادة مصر على قناة السويس التي كان يسيطر عليها الإنجليز والفرنسيون ويجنون جباياتها، قامت فرنسا وانجلترا ومعهما اسرائيل بالغزو الجوي المسلح على مصر، بقصد احتلالها، والإجهاز على قادة الثورة الذين وصفوهم بالانقلابيين، فلم يتسنَ لهم ما يشتهون، لتدخل الرئيس الأمريكي دويت أيزنهاور الذي أصدر أوامره بالوقف الفوري للإعتداء.

بيد أنه يتعين فهم التحديات التي واجهت حكم دولة المهدية من تلقاء التغيرات الجيوبوليتيكية الدولية المحيطة. إذ تزامن تفجرها مع انتفاضة أحمد عرابي عام 1882م؛ وتأكدت متابعة الإمام محمد أحمد المهدي لمجريات الأحداث وإفرازات الثورة في مصر، من تلقاء توجيهاته إبان حصار الخرطوم للمجاهدين بأن يلقوا القبض على غردون وعدم قتله؛ ولكن سبق السيف العزل، فقتله محمد ود نوباوي، شيخ بني جرار، بعد رفضه الإستسلام ومقاومته للإعتقال. فقد كان المهدي حريصاً على أسره ومبادلته بأحمد عرابي، بإعتباره قائداً وطنياً وجاراً مناصراً ومناضلا ضد الاستعمار، ولتوافقه مع مبادئ المهدية الرافضة للفساد، والداعية للإصلاح العام في الحكم والسياسة، وممارسة الجهاد الشعبي المسلح لإخراج الأجانب من بلاد المسلمين. وكان رأي المهدي التعاون مع الثوار لإزالة الفساد الأخلاقي والسياسي والديني، الذي عمّ البلدين إبان حكم الخديوية من لدن محمد علي وإسماعيل وتوفيق. إذ كان الخديوي توفيق قد أبرم اتفاقيات سرية تآمرية ضد سيادة البلاد ومصالحها العليا، مع فرنسا فاستعمرت الجزائر عام 1830م؛ ومع الإيطاليين الذين دخلوا الصومال عام 1889م؛ وكان الفرنسيون قد استعمروا جيبوتي قبلهم بحوالي تسعة أعوام. كذلك قام الطليان بالاعتداء على الحبشة فهزمهم الملك منليك في عدوة عام 1896م؛ بينما كان البلجيك يحشدون جيوشهم على الحدود الجنوبية بمنطقة الرجاف؛ كما زحف القائد الفرنسي مارشان على فاشودة فأخرجه كتشنر منها بإتفاقية عام 1899م.

فمن تلقاء ذلكم يتسنى فهم التحريض والتحرش الأوروبي المتآزر ضد دولة المهدية والسعي لإزالتها؛ فقد كانت مهدداً لتمدد الاستعمار الأوروبي، ورافضة لأجندته التبشيرية التي تتعارض مع مبادئ الإسلام.

كذلك مما عقّد الأوضاع على استقرار حكم المهدية عالمياً هو تزامن بروزها مع انعقاد مؤتمر برلين عام 1884م والذي تم فيه الإتفاق على اقتسام أفريقيا بين الدول الاستعمارية؛ واستناداً على مبدأ “عبء الرجل الأبيض” WHITE MAN’S BURDEN ، وكان رفض قادة المهدية القاطع لأي تعاون مع الاستعمار محفزاً للدول الاستعمارية للتسريع بالإجهاز عليها. فبدأت الهجمات على حدود السودان من جيوش انجلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا. وقام الفرنسيون بالهجوم انطلاقاً من سواحل الأطلسي في غرب أفريقيا والإتجاه شرقا تلقاء حدود تشاد والكيمرون الحالية، التي كانت تحت حكم رابح فضل الله ود الزبير، وارتكازه قرب انجمينا، عاصمة تشاد حاليا، وكان هو الذي أطلق هذا الإسم عليها، بعد أن انسحب من مدينة ديم زبير، بعد مقتل سليمان ود الزبير، بتوجيهات مباشرة من غردون، بعد أن هزم جيش الزبير سلطنة دارفور فأصبحت تابعة للخديوية؛ وتم اعتقال الزبير باشا تحفظياً في مصر بالغرر والاستدراج وباستدعائه ليُمنح لقب الباشوية. فقام رابح بالدفاع عن المنطقة الممتدة من ديم زبير وحتى حدود تشاد والكميرون وشرق نيجيريا حالياً. وكان جيش رابح الأحدث على مستوى جيوش أفريقيا؛ وكان مسلحاً بالكامل بالأسلحة النارية، وبأعلى مستويات التدريب، وكان يرفع راية المهدية. فنشبت المعركة بين رابح والغزاة الفرنسيين، بقيادة الجنرال فرانسوا لامي، في منطقة كسري، التابعة حالياً لدولة الكميرون. فاستشهد رابح في تلك المعركة بعد مقتل الجنرال لامي. ثم قام الفرنسيون، كعادتهم في طمس المعالم التاريخية لمستعمراتهم، بتغيير اسم انجمينا إلى فورت لامي، تخليداً لذكرى قائد الغزو القتيل، ولكن تم إرجاعها للإسم الوطني إبان فترة حكم الرئيس التشادي فرانسوا تمبلباي في منتصف السبعينينات.

اليوم يحتاج السودان لتحرير تاريخه السياسي والسيادي، بدءا بتعديل اليوم الوطني ليكون يوم 19 ديسمبر عام 1955 الذي قرر فيه البرلمان بالإجماع استقلال السودان، بدلاً من 1 يناير الذي ليست له أيّة رمزية تاريخية ولا نضالية سوى مراسمية رفع الأعلام الإحتفالية. كذلك يتعين أن تتضمن المناهج التعليمية مادة تاريخ السودان وتاريخ السلطة الوطنية ونظام الحكم والتشريع الذي ظل يحكم به السودانيون من لدن حكومة (السلطنة الزرقاء) عام 1502م في سنار؛ وتشكلت عبر تلاحمها الهويّة السودانية بين عمارة دنقس، ملك الفونج وعبد الله جماع، شيخ مشايخ القبائل العربية، فكانت الهوية الوطنية السودانية منذئذٍ مبنيّة على علاقات الرحم والأنساب المشتجرة والتصاهر وعقيدة الإسلام، واللونية التميزية (الزرقاء) فالأزرق بلغة أهل السودان هو (الأسود) وهو الإسم التاريخي لسودان (كوش) التي تعني بلغة النوبة “بلاد السودان”.

يتعين إحداث ثورة وطنية تصحيحية، ثقافية وسياسية شاملة في ذلك الإطار بدلاً من اجترار تاريخ ومقررات الاستخبارات الانجليزية الملغومة، التي سطرها بمكر بالغ نعوم شقير الذي كان مدير مكتب رئيس المخابرات الجنرال ريجنالد وينجت، الذي تلطخت يداه بقتل الخليفة عبد الله، وأركان حكمه من أمثال الخليفة علي ود حلو، وأحمد فضيل، وشيخ قبائل كنانة بشير عجب الفيّة، في جريمة حرب فاضحة، إذ كانوا يفترشون الأرض عندما حاصرتهم القوات الغازية؛ فقام الضابط الإنجليزي واتسون في سردية فاضحة بخلع جلباب الخليفة الملطخ بالدماء والمثقّب بالرصاص وسلب سيفه، لعرضها كتحف في أسواق السواح الأوربيين بمصر، ليحصل على دولارات من غنيمته الحرام.

أما الجريمة الأخرى التي اقترفها جيش الغزو الإنجليزي في السودان، فكانت إنفاذ أوامر كتشنر بالإجهاز على جميع الجرحى في كرري؛ ثم إقدام الجيش الإنجليزي الذي احتل أم درمان على اقتراف جريمة حرب فظيعة بنسف قبة الإمام المهدي، والتمثيل بجثته الشريفة، وفصل الجمجمة وإرسالها الى متحف الغزاة والعار الأخلاقي في لندن. وتشكل الحادثة جريمة حرب بشعة، وجريمة ضد الإنسانية، لم يسمع بها العالم في تاريخه الحديث، إلا في ملاحم البرابرة والمتوحشين.

يحدث هذا السلوك المشين ممن خدعوا العالم بحمل مشعل الحضارة وسدانة التنوير، فخدعوا السُذّج والمغفلين من المستغربين من أبناء الشعوب المستلبة ثقافياً وأخلاقياً ومن الذين لا يزالون في سكرة الحيرة وفقدان البوصلة يعمهون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى