الذاكرة السودانية: أمال عباس: تعلمت من الشيوعيين حب السودان بإيحابية

الذاكرة السودانية.. ملفات تسجل زيارة جديدة إلى التاريخ بهدف استنباط عصر تدوين جديد للأحداث والقضايا والشخصيات السودانية
محمد الشيخ حسين
عندما تقف الذاكرة السودانية عند هذه السيرة النضرة وصاحبتها يمكن القول إن الوقت الذي ظهرت فيه الأستاذة أمال عباس العجب كانت المرأة السودانية ذلك المخلوق الجميل، محشورة في ركن قصي، لا تملك الحق في رفع صوتها، حتّـى لا تنعت بالتحرر والفسوق، أو تتهم بالخروج عن تعاليم الدين! ومع ذلك عاشت حفيدة العجب صوراً من حياة طازجة تستحق القراءة والتأمل.
الصور تاريخية معبرة مشحونة بالدلالات، وتنبع أهميتها من صاحبتها لا تأبه بكتابة سيرتها الذاتية، بل أنها تذهب أبعد من ذلك حين تبرر تحفظها هذا بأنها لا ترى في سيرتها الذاتية ما يستحق الإشارة إليه بوجه خاص، فهي حسب قولها لا تختلف عن سيرة أي امرأة سودانية وجدت في ظروفها، ثم أنها في الوقت نفسه لا تتردد في أن تجيب أي سائل عن حياتها وتاريخها بما تيسر من صدق متاح.
العزوف المبدئي
على الرغم من هذا العزوف المبدئي، فإن سيرة الأستاذة أمال عباس تتجلى في كل أعمالها ليس ببعدها الظاهر، وإنما بمستوياتها الكيانية المتعددة. وليس هناك مبالغة إذا قلنا إن أمال عباس من المبدعين السودانيين القلائل الذين لم يعيشوا هذا التناقض الصعب بين ما هم وما يكتبونه، وهكذا تتكامل سيرتها نسيجاً متداخلاً بحسب قدرة المتلقي على الغزل من خيوطها.
ومع قلة الكتابة النسائية في مجال المذكرات، ترى الأستاذة أمال أن كتابة المذكرات تحتاج لشفافية، فهي عملية لتقديم النفس أو حكي لتجارب محدودة بشفافية.
والمذكرات عند أمال إن لم تكتب بشفافية تصبح كتابة تقريرية، وسرعان ما تخلق حاجزاً يقف بينها والمتلقي.
أوراق العمر
عندما تقرأ أمال عباس أوراق العمر للكاتب المصري المرموق لويس عوض، تجد مساحة واسعة جدا من الشفافية، وذكر فيها تفاصيل حياته الأولى، علاقته بأمه وأبيه، مغامرات الشباب، وولوجه إلى عالم السُكر والمخدرات،
وتحدث فيها عن تداعيات أول سيجارة تناولها وانعكاس أثرها على والده، وعن الذي أعطاها له وما تبعها من أحداث، فمثل هذه الكتابة لا يستطيع الإنسان السوداني كتابتها بمثل هذه الشفافية، وهذه الشفافية مهمة جداً، لأنها تعكس المناخ الذي نشأ فيه كاتب المذكرات بلا تدخل.
حديث النفس
يقود هذا الحديث عن لويس عوض أمال عباس إلى الحديث عن النفس، فحسب تعبيرها حين سردت قصة حياتها في نادي القصة (نحن السودانيين مهما كنا لا نجيد الحديث عن أنفسنا، ولا نعرف كيف نقدم أنفسنا إلا في حالات نادرة، وهذه الحالات النادرة ننظر إليها بريبة كبيرة).
ولدت أمال بعد الحرب العالمية الثانية، فهي من جيل ولد بعد السلام الجريح، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبدأت التحولات من حولنا في العالم.
طفولتها كانت في أم درمان مع بداية قيام الحركة الوطنية في الأربعينيات، في حي ود نوباوي، وهو حي سياسي اجتماعي به جامع السيد عبد الرحمن والأنصار، وكانت تستمع لأغنيات الحراك السياسي في ذلك الوقت، والإنسان ينشأ على ما تفتحت عيناه عليه، المظاهرات وشعاراتها، وكل الأغنيات التي كانت تردد في المناسبات والسيرة إلى ضريح السيد المحجوب.
صراع الطائفتين
شهدت أمال عباس في سن مبكرة الصراع والتنافس بين الطائفتين، وما تردد من أغنيات في تلك الفترة، ولا تستطيع ذكرها الآن لانعدام الشفافية.
بعد أن بلغت أمال سن التاسعة انتقلت مع والدها من حي ود نوباوي إلى الدويم، لأن والدها الموظف تم نقله هناك.
ورغم وجود والدها بحي ود نوباوي، إلا أن والدها لم يكن انصاريا، فهو سماني وله علاقة مميزة مع الشيخ قريب الله.
ونشأت أمال في هذا الجو الصوفي تسمع الاذكار والانشاد الشعري، وتقرأ في ديوان الشيخ قريب الله (رشفات المدام).
حظوظ النفس
تعتبر أمال عباس نفسها محظوظة جدا، لأنها ولدت في السودان مع بداية الحراك الاجتماعي وبداية نشأة الحركة النسائية. وكانت في المرحلة الوسطى قريبة جدا من الاتحاد النسائي، ودرست على يد قائدات الاتحاد النسائي، فاطمة أحمد إبراهيم معلمة الرياضيات في ذلك الوقت، ثريا أمبابي لغة انجليزية، محاسن عبد المتعال وفاطمة عبد الكريم بدري.
وعاصرت بوعي كل صراعات الحركة النسائية، ودرست على يد الاخوات المسلمات واليساريات، وأوصلتها علاقتها باليساريات لدرجة التجنيد في الحزب الشيوعي، وذلك عام 1958م.
صفحة الطالبة
كانت أمال عباس تحرر صفحة الطالبة في مجلة (صوت المرأة)، وكانت وقتها في الصف الرابع المتوسط، وقد كان ذلك لأن أستاذتها فاطمة أحمد إبراهيم كانت صاحبة امتياز المجلة ورئيسة تحريرها. وكانت تحرر هذه الصفحة باهتمام شديد. ومن هنا نشأت علاقة الأستاذة أمال بالكلمة المكتوبة.
وعرفت مجلة (صوت المرأة) أمال عباس برموز المجتمع السوداني آنذاك.
وبعد أن جلست لامتحان الشهادة الثانوية حررت صفحة الأدب والفن والمنوعات حتى عام 1971، وهو العام الذي أممت فيه الصحف.
مهنة التدريس
عملت أمال عباس بعد امتحان الشهادة السودانية في سلك التعليم، ثم تزوجت باكراً وانتقلت مع زوجها إلى مدينة سنار في عام 1965م، ثم احترفت العمل السياسي والعمل بمجلة (صوت المرأة).
ومن طرائف عمل أمال عباس في هذه المجلة أن راتبها كانت تصرفه لها بانتظام الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد حتى قيام ثورة مايو في 25 مايو 1969.
تخوف القيادة
عندما تم تجنيد أمال عباس في الحزب الشيوعي كانت صغيرة جدا، لدرجة أنها كانت مثار تخوف القيادة، فقد كانوا يتساءلون دائما عن مدى قدرتها على تحمل العمل السري .وللتاريخ تعترف أمال أنها مدينة للحزب الشيوعي في كل النواحي الحياتية، فقد تعلمت منه حب السودان بإيجابية، وتعلمت منه إعلاء قيمة العطاء على قيمة الأخذ.
التغيير الاجتماعي
رفعت ثورة مايو 1969 شعارات التغيير الاجتماعي والبناء الاشتراكي، ولم تتردد أمال عباس في الانضمام إليها، فهي من الذين انحازوا لشعارات ثورة مايو.
السودانية الواعية
كنت دائما أعتقد أن المصادفة تلعب دوراً أساسياً في حياة الإنسان. ربما أكبر بكثير مما يظن لأول وهلة، وأن العلامات والمراحل المميزة والفارقة في حياة المرء تجيء وتحدث في كثير من الأحيان عن طريق المصادفة البحتة، وأن دور المرء يقتصر على أسلوبه في الإفادة من الفرصة التي تتيحها المصادفة أو إغفالها وتركها تمر دون أن يشعر بها، ولست أعني بذلك أن موقف الإنسان من الحياة وأحداثها موقف سلبي أو أنه ليست له إرادة في صوغ حياته الخاصة وتشكيل شخصيته ورسم مستقبله ولكن كل ما أعنيه هو أن المصادفة تخلق أوضاعا معينة لم تكن في الحسبان.
مناسبة هذا الحديث أن الكاتبة الصحفية أمال عباس العجب هي (السودانية الواعية) هكذا سماها الكانب المصري الراحل نجيب محفوظ.
وعرفت أيضا بسيدة الصحافة السودانية التي قضت في مهنة المتاعب أكثر من 60 عاما. عاصرت فيها كل العهود الوطنية التي مرت على السودان منذ استقلاله في 1956وتعد أمل عباس من أوائل النساء اللواتي دخلن مهنة الصحافة. وكانت أول أمرأة سودانية تصل لمنصب رئيس تحرير لصحيفة سياسية يومية مستقلة في العام 1999،. ونالت في العام 2000 جائزة الشجاعة في الصحافة.
السيرة الذاتية
في حين مثلت السير الذاتية في الأدب الغربي تيارا شديد العنفوان في نهر الأدب رفد الثقافة العالمية بألوان مميزة من البوح، كان حس الكتابة السوداني يبيت تحت خيمة المحرمات، ولا تشرق عليه سوى شمس الممنوعات، كان هذا الحس أسير مجتمع الكتمان والإخفاء، وكأن السيرة محض كشف ـ وحسب ـ للمخفي من حيواتنا المخطئة. وهكذا رأينا أيضا عنف ردة فعل بعض الأهل عما قدمه المبدعون في سطور سيرهم الذاتية، ومكان التقاطها. والتوقيت. والزيارة تاريخية كالصورة. نجاحها يقلب صفحة الاندفاع نحو الهاوية. فشلها يقرب موعد الوقوع فيها. وللراغبين في تتبع السير الذاتية عليهم قراءة أو إعادة قراءة مذكرات بابكر بدري بأجزائها الثلاثة المعنون (حياتي). وبابكر بدري هو صاحب الفتح الكلي في أدب السيرة الذاتية السودانية، وكذلك من المهم جدا للصحافيين والسياسيين ومن لف لفهم قراءة الدكتور منصور خالد في مجلداته الأربعة (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية). ولا يفوتنا هنا في هذا المجال أن نذكر أستاذ الأجيال البروفسيور علي محمد شمو وكتابه المعنون (تجربتي مع الإذاعة).
مناسبة الاستطراد في السير الذاتية أمران:
الأول: إن تكمل الأستاذة أمال عباس ما بدأته من تجميع وتوثيق لتجاربها وكتاباتها الصحفية وتدوين سيرتها في مختلف مراحل حياتها.
الثاني: إن يهتم الاتحاد العام للصحافين السودانيين بتجميع وتحقيق وتوثيق التجارب الصحافية المختلفة، وتشجيع نشرها وإتاحتها للجميع. وليت الصديق القديم الصادق الرزيقي يهتم بالاقتراح ويضيف إليه من إبداعاته ما يجعله يرى النور في أقرب فرصة.
مسك الختام
مسك الختام كان شريط فيديو منتشر في التواصل الاجتماعي يقود فيه شاب بفرح شديد سيارته في شارع الوادي بأم درمان متجها من صينية كبري الحلفايا شمالا حتى مشارف خور عمر. كانت السيارة تسير ببطء حين مرت بالقرب من أجزاخانة سعد الدين القريبة من منزل الأستاذ أمال عباس العجب.
مشهد الفيديو يبشر بقرب الانتصار ، وهنا تذكرت شاعر البطانة الحردلو الكبير فهل تجيز لي سادنة التراث الشعبي أمال عباس إن قلت لها على طريقة الحردلو ولا أملك شاعريته:
الخبر الأكيد الليلة البرهان جابو
قال الجيش انتصر واتقرنت متحركاتو
إن سألونا نحن نزوحنا شن أسبابو
لا مصروف ولا زولاً بنتسلابو