الذاكرة السودانية: الخدمة المدنية قصة حب من طرف واحد

محمد الشيخ حسين
هل خبأ بريق الخدمة المدنية أم أن موظفيها فقدوا حضورهم الكبير ونفوذهم القوي في الحياة العامة؟
نطرح السؤال وفي الذهن أن الخدمة المدنية دخلت السودان أجنبية الفكرة والإجراءات والتنفيذ والموظفين، وتمحور هدفها حول تكريس استمرارية واستقرار الحكم الأجنبي.
وبعيداً عن الاختلاف الشديد وسط علماء وخبراء الإدارة على مستوى العالم حول تعريف الخدمة المدنية، نلفت الأنظار إلى التعريف الذي حددته لجنة تنظيم الخدمة المدنية في السودان، فهو يُعد مدخلاً لقصة الحب من طرف واحد التي تجري فصولها في أضابير الخدمة المدنية في السودان منذ سنوات خلت.
وتوصلت هذه اللجنة إلى التفسير الرسمي السائد في السودان عن التعريف أن (الخدمة المدنية هي كل العاملين الذين يتقاضون مرتباتهم من دافع الضرائب السوداني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في المستوى المركزي والمحلي والهيئات شبه الحكومية، وذلك باستثناء الوزراء والنواب والمناصب السياسية الأخرى ورجال القضاء والقوات النظامية).
وبصورة أكثر تحديداً، فإن مصطلح الخدمة المدنية يعني الخدمة غير العسكرية وغير النظامية لتشمل جهاز الحكومة المركزية والولايات والمحليات والهيئات والمؤسسات المستقلة، والهيئة القضائية والمستخدمين المؤقتين والجوانب المدنية أي التى تقدم خدمات مدنية مباشرة للجمهور من الشرطة كالجوازات والسجل المدني، والخدمة الوطنية.
وجه القمر
أما الوجه المضئ من القمر، فقد ظهر في إطار مؤتمر جامعة الخرطوم للدراسات العليا الأخير في مجال العلوم الإنسانية، برزت دراسة قيمة أعدها الباحث المرموق الراحل البروفيسور ميرغني عبد العال حمور الأستاذ في معهد دراسات الإدارة العامة والحكم المحلي بجامعة الخرطوم، وتتبع فيها مسيرة الخدمة المدنية في السودان ومقتضيات التنمية والتغيير.
ورغم أن البروفسيور حمور تتبع في بحث شامل نشأة الخدمة المدنية ومسيرة تطورها، إلا أن الدراسة برمتها تؤكد أن الحديث عن الخدمة المدنية يبقى دائما موازيا وملازما للحديث عن قضية التنمية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في السودان. ويستند هذا التأكيد إلى أن الخدمة المدينة، هي الوعاء الذي يستوعب كل عمليات التنمية.
مسيرة ممتدة
واقع الحال أن الخدمة المدنية السودانية عبرت مسيرتها الممتدة، ظلت محل خلاف بين أهل التخصصات العلمية ومصدر نزاع بين ذوي الولاءات السياسية. وتسبب هذا الخلاف في إنتاج صور معادية للخدمة المدنية تبدو أحيانا أنها بعيدة عن نبض المواطن السوداني ومشاكله واحتياجاته أو تظهر كأنها صنيعة استعمارية معادية لكل ما هو وطني وخير. وربما توصف بأنها مجموعة من البيروقراطيين المتحصنين ضد أي دعوة للتطوير أو التغيير أو الإبداع.
إزاء هذا الواقع المزري يقدم البروفسير حمور نظرة موضوعية للخدمة المدنية، يراها فيها وعاءً ملائما لخدمة أهدافها إذا ما وجدت من يعرف كيف يقيمها، بصورة علمية متجردة فيعمل على دراسة كيفية مساعدتها لتجاوزها لسلبياتها، وتعزيزها لإيجابياتها دونما تميز أو محاباة.
حديث المبالغة
تتبع البروفسير حمور مسيرة الخدمة المدنية منذ نشأتها الاستعمارية حتى محطتها الحالية، مستخدما نهجا علميا تحليليا، يقف عند متغيرات المستقبل بعقل مفتوح لا يتوانى عن التعاطي مع نظم وقوانين العولمة وتكنولوجيا المعلومات ومع ثورات المعارف والمعلومات والاتصالات.
أما الحديث عن خدمة مدنية جيدة ومتميزة ومعافاة تركها المستعمر للسودانيين، فهو حديث لا يخلو من المبالغة عند البروفسير حمور، خاصة عندما نعلم أن أهداف الخدمة المدنية طيلة العهود الاستعمارية تركزت حول تكريس سلطة الاستعمار وتشديد قبضته على العباد والبلاد.
ودون خوض في تفاصيل مملة غدت الخدمة المدنية في السودان مسخاً مشوهاً نتيجة التقلبات السياسية المؤدية إلى انقطاع الاستمرارية والافتقار إلى الخبرة والموضوعية، إضافة إلى أن الخدمة المدنية تعد من أكثر المتضررين من الدورة الجهنمية المتمثلة في الانتقال من حكم مدني لا تتسنى له الفرص الكافية لإرساء قيمه وتقاليده إلى حكم عسكري يعمل سيفه ليخضع الخدمة المدنية لإرادته، فيجردها من طابعها المدني لتصبح جزءاً لا يتجزأ من الشمولية التي تتابعت وتوالت على حكم السودان.
الإدارة والسياسة
بعد هذه الحواشي يقدم البروفسيور حمور ثلاثة متون يرى أنها ضرورية جدا لتناول مسيرة الخدمة المدنية. ويمثل المتن الأول العلاقة بين الإدارة والسياسة، أي بين جهاز الخدمة المدنية بوصفه الوعاء الإداري الذي تتم من خلاله معالجة قضايا الإدارة وتناول الإعداد لوضع السياسات وصناعة القرارات ثم عملية تطبيق تلك السياسات وتنفيذ تلك القرارات، وذلك من خلال برامج طموحة ومعاصرة للتنمية الإدارية والإصلاح الإداري. وهنا تكشف الفذلكة التاريخية أن الخدمة المدنية ورثت كوادر إدارية نمت وترعرعت وفق النظم البريطانية التي تكرس الحيدة في العمل والابتعاد عن السياسة. وكان جوهر النظم احترام الأقدمية والتدريب على رأس العمل، ومهنية واستمرارية الوظيفة الحكومية Career Path.
ولقد استمر العمل بكادر المستر ملز الذي قسم الوظائف إلى ثلاثة مستويات: المستوى الإداري المهني، المستوى الفني وشبه المهني، والمستوى الكتابي.
الاستقرار المفقود
كانت النظرية الرائجة أن النظام البريطاني الموروث وفر الاستقرار للخدمة المدنية، ومكنها من أداء رسالتها بمستوى عال من الكفاءة. لكن كل تلك السيرة العطرة لم تحدث كما كان متوقعا بسبب دخول متغيَّرين جديدين موضوعيين وهما:
أولا: ظهور المستوى السياسي والمتمثل في الوزراء والنواب البرلمانيين، والقيادات الحزبية والتي كانت مع اختلاف أنظمة الحكم في السودان، ترى في الخدمة المدنية إدارة لتنفيذ سياساتها دونما اعتبار لخبرتها أو مهنيتها. وهكذا بدأ التدخل السياسي بصورة مباشرة وغير مباشرة في سياسات وقرارات وأداء الخدمة المدنية بما لا يتفق والتقاليد المرعية والموروثة من الحكم البريطاني وهو ما أثر سلبا على سلامة وكفاءة الجهاز الإداري للخدمة المدنية.
ثانياً: أثرت تطلعات وطموحات المواطنين في خدمات أفضل وفي الاستجابة العاجلة لمطالبهم في توفير ضروريات الحياة اليومية، وفي مشاريع التنمية، الشيء الذي لم تعهده كوادر الخدمة المدنية، سلباً على الأسلوب الذي ورثته في أدائها لأعمالها من العهد البريطاني، وهو ما أدى إلى نوع من العداء والريبة بين الجهاز الإداري وبين مواطني الأقاليم الذين بدأوا يحسون بالغبن والتهميش من قيادات الخدمة المدنية في المركز وعلى المستوى السياسي.
ثالثاُ: لم تحظ الخدمة المدنية بمن ينظر إليها نظرة موضوعية، ومن يرى فيها وعاء ملائما لخدمة أهدافها إذا ما وجدت من يعرف كيف يقيمها، بصورة علمية متجردة فيعمل على دراسة كيفية مساعدتها لتجاوزها لسلبياتها، وتعزيزها لإيجابياتها دونما تميز أو محاباة. وهو ما سيحاول مٌعد هذه الدراسة تحقيقه، وذلك من خلال تتبع مسيرة الخدمة المدنية منذ بداية عهد الاستعمار وحتى وصولها لمحطتها الحالية في عهد نظام الإنقاذ.
رابعا: هذا وسيعمد الباحث على أن يتبع نهجا علميا تحليلياً وموضوعيا يتمثل في الوقوف على جوانب النقص والقصور في الخدمة المدنية ومحاولة سبر أغواره والعمل على تصحيحه وتقويمه وكذلك حصر جوانب التميز والإبداع والعمل على تعزيزها وتطويرها، ومن ثم محاولة استشراف المستقبل والوقوف على متغيراته وولوج آفاقه بعقل مفتوح وقلب مفتوح لا يتوانى عن التعاطي مع متغيرات هذا القرن (الحادي والعشرين) ومع نظم وقوانين العولمة وتكنولوجيا المعلومات ومع ثورات المعارف والمعلومات والاتصالات. وأن يعمل وبصورة عقلانية على تفهمها واستيعابها، وتوظيفها لمصلحة قضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة للبلاد، ولمساعدة أهلها على تحقيق مستويات متصاعدة من العيش الكريم لهم وللأجيال القادمة.
تفاصيل الإصلاح
لعل المهم في ختام هذه الذاكرة الوقوف عند إشارة البروفسير حمور إلى أن الإغراق في الحديث عن تفاصيل إصلاح الخدمة المدنية في السودان عبر رؤى ومفاهيم القرن الماضي التقليدية ما عاد يواكب احتياجات مجتمع ما بعد الصناعة كما وصفها ألفين توفلر في كتابيه (صدمة المستفبل) و(الموجه الثالثة)، وكما أشار إليها قيبلي واوزبورن في كتابهما (إعادة اختراع الحكومة).
وليس من ثمة شك في أن مثل هذا التوجه من شأنه، بجانب ما يعنيه من حرمان للخدمة المدنية السودانية من معطيات العصر، فإنه من شأنه كذلك أن لا يمكن السودان من ولوج أبواب التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي لا تتحقق إلا من خلال خدمة مدنية حديثة.
وحصاد القول إن الخدمة المدنية منوط بها مساعدة البلاد على استشراف المستقبل وعلى التعاطي مع تحديات القرن الحادي والعشرين المتمثلة في الثورة التكنولوجية وفي ثورات المعارف والمعلومات والاتصالات وفي مواجهة تحديات العولمة.
ونخلص في قصة الحب التي تدور رحاها في أضابير الخدمة المدنية على مدى 70 عاما أن تدخلات السياسيين وتطلعات المواطنين لا تقف وراء تدهور الأداء، بل تقدم صورة معادية بعيدة عن احتياجات المواطن السوداني. وتلك قصة لم تكتب بعد.