ملفات

الذاكرة السودانية: الكبابيش بين التاريخ الشفوي والنسب الجيني الأبوي

محمد الشيخ حسين

هل هي أمنية أم حلم أم مغامرة أن يسعى باحث في التراث السوداني إلى الاستفادة من البيانات الوراثية لتعزيز البحث التاريخي عند تدوين الروايات الشفهية؟.

واقع الحال أن الأمر لا يقع في باب التمني، ولا يصل إلى متاهة الأحلام، وربما يدخل في دائرة المغامرة حين نقرأ مع الأستاذ موسى أحمد مروح في كتابه الصادر عن دار طرابيل للنشر بعنوان ثلاثي الجمل تبدأ بجملة (دراسات، في الدراسات، التراث السوداني) وتحمل الجملة الثانية عنوان الكتاب (تاريخ الكبابيش الشفاهي). وتكمل الجملة الثالثة موضوع الكتاب (برواية الشيخ عوض الله ود محمد ود عوض الله ود شدهان الكبيشابي الكباشي).

ودون أي محاولة لإبداء التواضع الزائف يمكن القول إن هذا الكتاب الذي يحتوي 96 صفحة من القطع المتوسط يمثل أول تجربة سودانية في الاستفادة من البيانات الوراثية لتعزيز نتائج البحث التاريخي.

النسب الجيني والكبابيش
معلوم أن علم النسب الجيني الأبوي هو المجال الذي يجمع بين علم الوراثة وعلم الأنساب والبحث التاريخي، كأداة قوية لكشف أسرار الأجداد. ومن خلال تحليل بيانات الحمض النووي، يمكن للباحثين تتبع النسب، وتحديد أنماط الهجرة، وتسليط الضوء على الأحداث التاريخية.

ويتناول علم الأنساب الجيني تطبيق علم الوراثة على علم الأنساب ويحلل الجينوم البشري لإثبات أو على الأقل تقدير أسلافهم ، أي درجة القرابة بين الأفراد.
تقتصر مناهج الأنساب التقليدية على النسب، المستخرجة من الوثائق الرسمية، وبالتالي غالبًا ما تنتهي بجدار من الطوب عند تتبع شجرة عائلة الشخص بسبب نقص المعلومات المتاحة.

أما الكبابيش فهم من القبائل العربية في السودان، وهي قبيلة جهنية. تتواجد في منطقة شمال كردفان. وتتكون القبيلة من عدة مجموعات مختلفة، يقودها جميعا الناظر. ومهنتهم الرئيسية هي رعاية الإبل، مما يعطيهم مكانة عالية في المجتمع العربي، حيث أن صاحب الإبل يحظى بتقدير ومكانة عالية عندهم.

التحور الجيني BY2
جديد هذا الكتاب خوضه في تفاصيل نتائج الكبابيش في (مشروع حملة التحور الجيني BY2).

وأصل الحكاية أن المشروع أخذ عينات من عشرة فروع كباشية وبعد الفحوصات اتضح أن هذه الفروع جميعها تصطف تحت جد تحوري مشترك هو التحور BY2 الذي يجمع الكبابيش بالمجموعة الجعلية الكبرى.

وأجرى المشروع فحوصات إضافية على خمس من عينات الكبابيش العشرة أخذت من البطون التالية: أولاد شدهان، الباكراب، الجامراب، الشليواب، والمريصاب. وكشفت الفحوصات أن هذه البطون الخمسة تصطف تحت BY3 وهو ابن التحول BY2.
وتبدو المسألة أكثر وضوحا في الرسم المرفق (مشجرة التحولات الجينية العربية وموقع الكبابيش منها باللون الأخضر.
ويظهر في هذه المشجرة نسب الكبابيش المضري العدناني باللون الأخضر. وهم لا يلتقون مباشرة بجهينة باللون البرتقالي إلا بعد مضر.
وحسب نتائج المشجرة فقد تم استبعاد نسب الكبابيش لعبس أو فزارة لظهورهما باللون الأحمر تحت التحور FGCS5.

تاريخ الكبابيش
حسب مقدمة الكتاب فهذا الكتاب هو أول إصدارة مكتوبة لتاريخ الكبابيش الشفاهي يرويها ويجمعها ويحررها ويكتب بلهجتهم نفر نفر من الكبابيش أنفسهم.
ويغطي هذا الكتاب تاريخ الكبابيش منذ ظهورهم في شمال شرق السودان الحالي في حوالي النصف الأول من القرن الثامن عشر وحتى نظارة السير علي التوم المتوفي في العام 1938.

ويهدف الكتاب إلى أن يصبح حجر الأساس لمشروع أوسع ينقل جميع روايات ذلك التاريخ المتوارثة شفاهيا وسط فروع الكبابيش المختلفة ويحولها من المشافهة إلى نص مكتوب بغرض حفظها وإتاحتها للباحثين. وهنا يشير محرر الكتاب إلى أن كتاب الدكتور عبد الله علي إبراهيم (فرسان كنجرت .. ديوان نوراب الكبابيش وعقالاتهم في القرنين الثامن والتاسع عشر)، أتاح لأول مرة تاريخ الكبابيش الشفاهي من خلال مورثهم الشعري وملامح من رواياتهم، بل أصبح منذ صدوره من دار جامعة الخرطوم للنشر في العام 1999 المرجع الأساسي لذلك بلا منازع. وتأسيسا على هذا اعتمد محرر الكتاب على ما بناه كتاب فرسان كنجرت. وبدأ عملية جمع الروايات المتناثرة بين فروع الكبابيش، لمعرفة ما هو متفق عليه فيها ، وتفسير أو تقريب ما اختلفت الروايات حتى تتاح للباحثين رؤية قوامها حصيلة الأرث الشفاهي لمن صنعوا ذلك التاريخ.

تطابق الروايات
جديد هذا الكتاب بعد أن اعتمد محرره (فرسان كنجرت) معيارا يقيس عليه منطق تسلسل الأحداث. وفي رواية الشيخ عوض الله ود محمد تتماشى في أغلبها مع ماورد في (فرسان كنجرت) من ناحية الأحداث الكبرى وتسلسلها الزمني، وكذلك تتوافق كثيرا مع رواية التريح النورابية. وتختلف رواية الشيخ عوض الله في بعض تفاصيلها عن (فرسان كنجرت) في أن النواة الأولى لتجمع الكبابيش كانت في خلاء أبو حمد وليس دنقلا وشرق العفاض.

وتعتمد رواية الشيخ عوض الله مقتل (رأس الهام) كعلامة فارقة في تاريخ الكبابيش كانت السبب في انسحابهم من خلاء أبو حمد، وبداية البحث عن دار لهم في شمال كردفان. و(رأس الهام) في هذه الرواية ليس حارس بئر شكري وإنما هو (سلطان الهمج) وزيارته المنتظمة في معية حرس وخفراء يستخدمون سلطاته لاقتطاع الأتاوات من الناس غصبا يقوي من منطق الرواية من حيث أن الناس في المنطقة كانوا يعترفون له بذلك السلطان. هذا بدوره يتناسب أكثر مع اختيار الكبابيش الانسحاب بممتلكاتهم من أمام سلطان بعيدا عن النهر خشية الانتقام إثر مقتله وهي (الكسرة) التي قادتهم جنوبا إلى نواحي الحنيك وأبو ضلوع ومنها إلى شمال كردفان.

حوارات الكتاب
يحتوي كتاب تاريخ الكبابيش الشفاهي على ستة حوارات مطولة أجريت بين الأعوام 2016 و2020 مع الراوية الشيخ عوض الله محمد عوض الله وهو كباشي من فرع الكبيشاب، أولاد شدهان.

سجلت الحوارات في ملفات صوتية ثم حولت بعد ذلك إلى نص مكتوب. أجرى الحوار الأول (الذي تم في وقت ما من العام 2016) والحوار الثالث في نوفمير 2019 الشيخ عثمان ود يوسف ود محمد ود عوض الله وهو ابن أخ المؤرخ وشيخ أولاد شدهان الحالي.
أما الحوار الثاني فقد أجراه موسى أحمد مروح محرر الكتاب مع المؤرخ في يناير 2018 أثناء زيارته لقرية الكبيشاب الواقعة بالقرب من كجمر.
واختتم المحرر سلسلة الحوارات بثلاثة حوارات هاتفية تصحيحية مع الراوي في يونيو ويوليو وديسمبر 2020. وهدفت هذه الحوارات إلى الإجابة عن الأسئلة العديدة التي أبرزتها الحوارات الثلاثة الأولى.

شخوص الكتاب
عمل في إعداد كتاب تاريخ الكبابيش الشفاهي هم: الراوي الشيخ عوض الله، ابنه محمد، الشيخ عثمان ود يوسف، والمحرر موسى ود أحمد ود مروح.
وتربط هؤلاء صلة قرابة، وينتمون إلى أولاد شدهان الذين ينتمون إلى فرع الكبيشاب من الكبابيش.
ولا يمثل شخوص الكتاب الأربعة جيلين مختلفين فحسب، وإنما كذلك إلى عالمين يختلفان ويتشابهان. إذ يمكن الشيخ عثمان ومحمد ود عوض والمحرر موسى من الجيل الذي عاش حياتي الحضر والبادية.
أما الراوي الشيخ عوض الله فهو ينتمي إلى جيل عاش كل حياته في البادية حيث تشكلت فيها شخصيته ورؤيته للعالم، ولم تؤثر فيه ثقافة الحضر ولا التعليم المدرسي الذي فاته.

جديد الكتاب
يتمثل جديد كتاب تاريخ الكبابيش الشفاهي في أنه أعاد البروفسيور عبد الله علي إبراهيم إلى صباه.
وأصل الحكاية أن محرر الكتاب قد دفع بمخطوطته إلى البروفسيور عبد الله علي إبراهيم للاستفادة من علمه الغزير في مجال دراسات التراث السوداني.
وهذا ما دونه البروفسيور عبد الله علي إبراهيم على صفحته في الفيسبوك:
أعادني موسى مروح إلى صباي في البحث التاريخي بعرضه علينا مخطوطته “تاريخ الكبابيش الشفاهي” التي نوه فيها بأثر كتابي “فرسان كنجرت: ديوان نوراب الكبابيش وعقالاتهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر” (1999) عليه. وانتظرتني مفأجاة كلّبت لها شعرة جلدي حين وجدت أن راوي موسى هو عوض الله محمد عوض الله ود شدهان من فرع الكبيشاب في الكبابيش. وكان عوض الله من بين رواتي لتاريخ الكبابيش خلال عملي الحقلي بينهم بين 1966-1970. وجئت عنه بهذا التعريف في الكتاب:
كبيشاب مساعيد، حمرة الوز. عمره 55 عاماً (1969) يروي عن والده الذي وجدته المهدية رجلاً متكلفاً وتوفي عن 89 سنة من 20 عاماً. له مجالس مع الشيخ موسى على التوم (مؤرخ كباشي وشيخ نورابي كتبت عنه نعياً قبل سنوات).ما شاء الله عوض الله. مد الله في عمرك. فقد أخذ عنه موسى الرواية في 2016.

 

هل من عودة
يستحق كتاب تاريخ الكبابيش الشفاهي أكثر من قراءة لجمعهم بين علوم قديمة في جمع وتمحيص الروايات الشفهية ومطابقاتها بعدة مصادر وتدوين وقائع تلك الروايات بروح الزمن الذي صدرت فيه.

وحسب الخط الزمني لتاريخ السودان الحديث للكتاب الذي يبدأ مع السلطنة الزرقاء في 1504 وحتى زماننا هذا، فإن الكتاب يتعمق في العلوم الجديدة في مجالات علماء الوراثة والمؤرخين وعلماء الآثار، ويسلط الضوء على كيفية تعزيز البيانات الوراثية بأحدث المعارف العلمية.
ويبقى أن نشير بالتقدير لمحرر الكتاب ومعاونيه الثلاثة لجهده في الإجابة عن سؤال عن النسب الجيني: ما هو وكيف يعمل؟.

نحن في كتاب تاريخ الكبابيش الشفاهي أمام تجربة مختلفة ومتميزة في المحتوى والإخراج الفني والتبوبيب والطباعة وهذا ما سنعوده إليه تفصيلا.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحياتي ابن العم محمد الشيخ حسين وشكرا لهذا العرض الشّيٍق للكتاب ، والتحية للأستاذ موسي مروح ، ولعله كما تقضلت نهج لنا منهج متميز في تدالتوثيق الذي كنّا نعتمد فيه المخطوطات والتي قد تتعذر في كثير من الأحيان تواقرها أو العبث بها عند ضعاف النفوس ، الجميل في الأمر وهو عود الكثير من النّاس للبحث في جذورهم وهنا لو نلتقط الفكرة بعد الأذن من صاحبها ، فكرة الجينات هذه وننزلها علي قبائل السودان لتبيّن لنا تدوين التّأريخ بطريقة جديدة ؛ ولا يفهمني القارئي عصبية فأنا مع القومية لكن تحقيقا فمعرفة الأنساب علم يُجْزى عليه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى