
محمد الشيخ حسين
فجر الجمعة قبل الأخيرة من العام الماضي 2023 رحل من دار الفناء إلى دار البقاء الأستاذ الجليل بدر الدين محمد أحمد سليمان رائد حلم التنوير وصاحب فعل التغيير في السودان..
رحل الرجل الذي كان في مسيرة حياته، يأتي العالم إليه، يستحضره في كل سانحة من أيامه الأولى في الحزب الشيوعي السوداني مرورا بالجبهة الوطنية إلى نهضات حقبة ثورة مايو، إلى أنفاس من عمل معهم وتعرف عليهم وانفعل بمنجزاتهم خلال فترة حكم الإنقاذ.
رحل الرجل وعمر تجربته في شقيها السياسي والاقتصادي تجاوز 70 عاما كان خلالها يحلق فوق سماوات سبع ولا سقف لطموحاته. رحل الرجل الذي يشم رائحة تراب السودان في كل لحظة.
مساحات شاسعة من حياتنا على كل صعيد جاب بدر الدين محمد أحمد سليمان أبعادها واستحضرها في أعماقه.
أما الجالسون في مقاعد التوثيق المفقود لوقائع سيرة السودانيين الأفذاذ، فقد يتعذر عليه الإحاطة بالتفاصيل، لكن المراقب الحصيف يمكنه أن يؤكد أن بدر الدين كثيرا ما سبق ويسبق زملاءه ونظراءه وأخوته المتخصصون أو المهتمون في جوانب ومستويات وجودنا الإنساني
حلم التنوير السوداني
قد يكون صحيحا أن زمان الناس هداوة بال، لكن زمن الأستاذ بدر الدين سليمان يتخطى هدوء البال ليصبح قصة في البحث عن الوطنية.
كان بدر الدين مشغول الذهن والوجدان بالقضية الوطنية منذ سنوات طفولته وشبابه فقد ولد في الكوة في العام 1934، وتنامت مشاعره خلال مراحل العمر من الذي كان يسمعه من والده الأستاذ محمد أحمد سليمان رحمه الله وغيره من المعلمين الأفذاذ الذين شاركوا في تطوير حركة العلم والمعرفة في البلاد.
والحديث عن تأثير الوالد الأستاذ محمد أحمد سليمان ودوره في الحركة الوطنية يطول ويمتد. وعلى الراغبين في التفاصيل الاطلاع على صورة قلمية نادرة رسمها الأستاذ الدرديري محمد عثمان في الفصل المعنون شخصيات لا تنسى من كتابه (مذكراتي) الصادر في 1961م. وتكمن أهمية شهادة الأستاذ الدرديري محمد عثمان، في أن الشاهد هنا هو أحد الرجال المحترمين جدا في تاريخ السودان المعاصر، علاوة على أن الكل في ساحة السياسة يبحث عن دور أو موقف، ولكن قد يبدو هذا الدور ملتبسا ومخادعا في كثير من الأحيان، لكن مواقف الأستاذ محمد أحمد سليمان كانت جلية وواضحة في مجمل سيرته الناصعة خلال عمره القصير في الحياة نفسها.
فقد بدر الدين الوالد في سن مبكرة، لكن القدر الذي أخرجه من مدرسة الوالد محمد أحمد سليمان، أدخله في جامعة الخال التجاني الماحي، وفي كنف العلامة التجاني الماحي تعلم بدر الدين أهمية تحديد موقع المجتمع السوداني في السياق التاريخي عبر جهد منهجي يمزج المعرفة الحديثة بالواقع الاجتماعي للحياة السودانية.
الروح الوطنية
غرست تلك الأجواء المفعمة بالروح الوطنية الوثابة في ذهن بدر الدين الكثير من المعاني والقيم التي ظلت تلازمه في رحلته مجهولة الأمد في البحث عن الوطنية. ولذا التحق في صباه الباكر بالحركة السودانية للتحرر الوطني التي اجتهدت في ذلك الوقت في نشر الوعي الديمقراطي، بهدف (حصار بذرة الاستبداد التي تشيد لنفسها موقعا في أرضية البناء القائم الآن). لكن هذه الحركة انقسمت إلى تيارين الأول بقيادة عبد الخالق محجوب عثمان والذي سمى نفسه بالحزب الشيوعي السوداني، والثاني بقيادة عوض محمد عبد الرازق والذي سمي بالحركة الديمقراطية السودانية.
وقد لا يسع المجال هنا للخوض في التفاصيل، لكن للتدليل على العمق الفكري للتيار الذي وقف معه بدر الدين يستحسن أن نستعرض فقرة من وثيقة عوض عبد الرازق التي دعت إلى: تحجيم الخط اليساري المتعجل الداعي للقفز فوق المراحل بتحويل الحركة السودانية للتحرر الوطني لحزب شيوعي (ماركسي لينيني) مستندا على العمَّال والمزارعين والمثقفين الثوريين، لأن طبقة العمَّال في بلادنا مازالت طبقة وليدة تنحصر في عمَّال الخدمات (سكك حديدية، البريد، موانئ، نقل نهري) وهؤلاء جميعا دورهم مساعد وثانوي. فالعمَّال طبقة مازالت في طور التكوين ولم يكتمل تطورها ولن يكتمل إلا في ظل الثورة الوطنية الديمقراطية التي من مسئولياتها الرئيسية تحقيق بناء صناعي واسع يجعل من العمَّال طبقة قائدة وقادرة على بناء حزبها الطليعي القوي الذي يسير بها وبالمجتمع نحو الاشتراكية.
أما المزارعون والنص للوثيقة: فيطابقون في وعيهم مستوى الإنتاج الزراعي، فالزراعة في كل السودان مازالت زراعة اكتفائية ضعيفة وليست ذات أثر يذكر حتى في أرقى أشكالها مشروع الجزيرة. ولم يشكل المزارعون طبقةً اجتماعيةً ذات هموم ومطالب ووعي يؤهلها لتحقيق تحالف العمال والمزارعين.
وأهمية هذه الوثيقة أنها تحتوي على استشراف يرنو لواقع سياسي سوداني، مازالت أطروحات أحزابنا بكافة مسمياتها ومراحلها في حاجة ماسة له، خاصة حين نراه يحذرنا قبل 70 عاما من (أن طريق التعجل السياسي ينذر بفقدان الحركة السودانية للتحرر الوطني مواقعها كطليعة ديمقراطية يلتف حولها أكثر أبناء شعبنا ذكاءً، وإذا تعارضت مع قيم وتراث الشعب السوداني فإنشاء حزب شيوعي يدعو إلى الاشتراكية لم يحن أوانه بعد وربما يدفع نحو المقامرة التي لا تراعي المراحل، وقد يحدث شرخا عظيما في وجدان المجتمع ويهدم كل البناء ولعمري إنه طريق الفشل).
ونمضي في خطوة جريئة ثانية لندلل على أهمية قراءة هذه الوثيقة حين نقرأ نصا يقول إن (الحركة السودانية للتحرر الوطني غرست أقدامها عميقا في أوساط الشعب باجتذابها العناصر المستنيرة والفئات الأكثر وعيا أو مصلحة (طلاب، موظفين، عمَّال.. إلخ)، مما يرشحها لأن تلعب دورا مهما في البناء الوطني الديمقراطي بالرغم من وجود عقبات أساسية نوجزها في أن من مهددات التطور الديمقراطي اليسارية الطفولية التي تتعجل الإنجازات وتتجاوز المراحل في التطور الوطني بغرض فرض خيارات تتناسب مع الظروف الموضوعية على نحو الدعوة لتحويل الحركة السودانية للتحرر الوطني لحزب شيوعي مما يؤسس للعزلة والقطيعة بين الشيوعيين والديمقراطيين وينفرط عقد تحالفاتهم ودورها الرائد منبرا ديمقراطيا تأسس من خلال نضال الديمقراطيين والوطنيين بالدرجة الأولى).
وعودة لصاحبنا بدر الدين، فإن أهمية الاستطراد السابق تكمن في أنه يمثل البدايات الأولى لحلم التنوير السوداني الذي غازل أفكار بدر الدين في تلك السن الباكرة.
وعاء الوطن
لعل حلم التنوير هو ما يدفع بدر الدين الذي درس القانون في مصر إلى الحرص الشديد على أن يقدم من كتاب حياته المملوء بالتجارب والأسرار، إفادات للجيل الجديد عن وقبل العودة لحلم التنوير السوداني الذي يقوده بدر الدين سليمان، فإن الاستطرادات السابقة تسعى لتأسيس قراءة جديدة لشخصيته توصف بـ (نموذج للدماثة والنبل وسماحة الخلق والتواضع الإنسان).
إضافة إلى كل هذا يجسد بدر الدين نموذجا لباحث مخلص ومفكر مجتهد في السياسة والاقتصاد، رغم أنه خريج قانون. ولعل بدر الدين المسكون بموسوعية العلامة التجاني الماحي منذ الصبا الباكر، تراه في كل ما يكتب يقتطف فقرة ما أو يستعير لهجة أو تركيبا لغويا، وأغلب محاولاته تقترب من الجوهر الذي يتطلب إدراك التغييرات الأساسية التي طرأت على القيم وما يصاحب هذا التغيير من عناء قسوة على روح الإنسان واستقامة رؤيته للأحداث والمشاكل.
بدائل جديدة
من يقرأ سطور كتاب الأستاذ بدر الدين سليمان (بدائل جديدة للنمو ـ نتائج النمو الأخلاقية)، سيدرك من السطر الأول انحياز بدر الدين التام لقيم العدالة الاجتماعية وحقوق المهمشين.
ويقدم هذا الكتاب الذي يأتي في 152 صفحة باللغتين العربية والإنجليزية، إنجازا مهما يتميز بالجدة خصوصا في ربط السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ويؤكد هذا الكتاب أيضا أن مؤلفه مثقف رفيع يجتهد في أن يضع لنفسه مكانة بارزة في خارطة الفكر السوداني المعاصر. ويضيف هذا الكتاب للمكتبة السودانية جهدا فكريا مهما في تحليل العلاقة المتشابكة المعقدة بين السياسة والاقتصاد والمجتمع، وما يسفر عنها من تعقيدات وخصومات وآحن.
ويعد اهتمام الكتاب بالثقافة من أجل التنمية ناقوسا لإثارة الانتباه إلى المضمون الحقيقي للتنمية المتمثل أساسا في الإنسان.
إن قراءة كتاب الأستاذ بدر الدين سليمان تكشف عددا من الخصائص والسمات المهمة لأسلوبه باحثا موسوعيا، لا يتطرق إلى موضوع من الموضوعات إلا بعد الإحاطة بكل ما كتب عنه من الباحثين الغربيين والعرب. ومن بين هذه السمات الالتزام بصرامة المنهج العلمي مع الحرص على وضوح الأفكار وبنائها في السياق الذي يخدم الفكرة الأساسية للموضوع.
كما تكشف قراءة كتاب بدر الدين عن الطابع الحداثي لمنظومة أفكاره، وتشديده على فكرة الدولة المدنية بديلا لدولة القبيلة، والانحياز التام إلى قيم العدالة الاجتماعية عبر اهتمامه بفكرة العلاقة بين الدولة والمجتمع. بل يريد بدر الدين بكتابه هذا أن ينقلنا من مجتمع الشيخوخة السياسية إلى مجتمع تصنع الأجيال الجديدة فيها كتابة عصر سوداني جديد بفكر جديد وبذهنية جديدة. وفكرة النقل هذه واضحة جدا في باب الكتاب المعنون (موعود لا مفقود)، وهي رسالة الوطن الموعود (الوطن الذي يحمل في أحشائه أرواح عالم لا يموت … روح أفريقيا الأم … روح المجد العربي التليد … ووحي الرسالة الخالدة).
إن الدعوة لقراءة كتاب (نموذج بديل للنمو ـ نتائج النمو الأخلاقية) في الحقيقة ليست دعوة للاحتفاء بسيرة مفكر وسياسيي رفيع المستوى فقط، بل هي أيضا دعوة للتعرف على منظومة فكرية عقلانية تنحاز لقيم النهضة السودانية وتضع يدها على الكثير مما يعتور الحياة السياسية والاجتماعية في مجتمعنا. وتقترح إيجاد البدائل التي يرى بدر الدين أنها يمكن أن تحقق التنمية الحقيقية للمجتمع عبر ترشيد العلاقة بين المؤسسات السياسية الرسمية وتفعيل دور المجتمع المدني في صياغة الحراك السياسي والاجتماعي اللازم لتحقيق التنمية والنهضة.
كتاب ومضات مشرقة
حين دون الراحل بدر الدين سليمان سيرته الذاتية كتبها بطريقة مبتكرة، فقد اسماها (في ذكرى ومضات مشرقة في: التجاني الماحي، مأمون بحيري، سعيد المهدي، فريد عتباني، محمود حاج الشيخ، محمد أحمد سليمان، وبدر الدين سليمان).
وهكدا أخرج بدر الدين سليمان سيرته الذاتية ضمن ستة آخرين يعتبرون من النجوم الباهرة أو الومضات المشرقة في حياة أهل السودان.
ولعل استعراض الجلسة التي ضمت رموزا بارزة من المجتمع السوداني تعطينا فكرة طيبة عن الكتاب والكاتب.
احتشدت قاعة فندق هلتون الخرطوم على سعتها ورحابتها بحضور نوعي متميز جدا، أجيال مختلفة من المستنيرين والمرموقين. وزراء سابقون ووزراء حاليون، وبالطبع وزراء لاحقون. سفراء أساتذة جامعات خبراء في مختلف المجالات.
وحيثما يمتد بصرك تجد أسماء سودانية لامعة ومرموقة ومثيرة للاحترام والتقدير، فيما يتعلق بحماية الوطن تجد شخصية قامة وقيمة مثل الفريق عبد الوهاب إبراهيم، وفي الشأن الاقتصادي بتشعباته المعقدة تجد شخصية ضخمة ذات أثر وتأثير مثل عثمان النذير، وفي مجال التكنولوجيا بآفاقها الرحبة تجد شخصية رائدة تحملت عبء المبادرة والمغامرة في تأهيل الحياة السودانية للتقنية الرقمية مثل الدكتور أبو بكر مصطفى محمد خير.
الأسماء كثيرة والحضور قوي والمنصة اكتملت معلنة بصوت أستاذ الأجيال البروفسيور علي شمو وحضوره القوي عن بدء الجلسة الاستنثائية لمناقشة كتاب استنثائي ومؤلف استنثائي.
حفظت الجلسة اللقب والمقام الرفيع لكل مشارك فيها، وبدأت بصورة غير تقليدية فالقرآن الكريم رتله البروفسيور شمو بقراءة خريج خلوة نبيبه ووقور، ثم دلف مباشرة إلى إجراءات الجلسة محددا زمنها بساعتين منقسمة إلى قسمين قسم أول لمداخلتين من البروفسيور عبد الله علي إبراهيم والدكتور أمين مكي مدني ثم كلمة مكتوبة من الأستاد عبد الباسط سبدرات. أما الجلسة الثانية فقد خصصت للنقاش العام.
ماء الفكر والتجربة
بدا الدكتور عبد الله علي إبراهيم سعيدا ومنتشيا بتشريفه للحديث عن كتاب ضم بين دفتيه كلمات متفرقة وأوراق عمل باللغتين العربية والإنجليزية أعدها الأستاذ بدر الدين خلال فترات عمله في مناصب دستورية مختلفة، لكنه يخلص إلى أن هذه الكلمات المرموقة قد كتبت بماء الفكر والتجربة.
يكرر الدكتور عبد الله الإعراب عن سعادته باستعراض هذا الكتاب وسط هذا الجمع الكريم، لأنه يعود به إلى زمن جميل عرف فيه ملكة بدر الدين على القراءة حين ترك مكتبة ومكيف وكنبة للقراءة في منزل الأسرة في أمدرمان ورحل إلى منزل الزوجية.
الدكتور عبد الله استفاد من هذه الرفاهية (الكنبة والمكيف) بصحبة الأستاذ غازي سليمان حين سكن معه في المنزل فترة من الوقت.
قلنا أن بدر الدين مشغولا الذهن والوجدان بالقضية الوطنية منذ سنوات طفولته وشبابه، لكن الدكتور عبد الله يقف عند مقالين في الكتاب، يقف عند مقال كتب باللغة العربية بعنوان (أزمة الحكم في السودان). يرى أن المقال الذي كتب في مايو 1988 في صفحة 51 من الكتاب يحمل توصيفا دقيقا لأزمة البلاد وتلمح مسارات للخروج من هيمنة الأزمة أو الأزمة المهيمنة على حياتنا. ويقف عند مقال آخر كتب باللغة الإنجليزية عن سبل مكافحة الفقر وعدالة التوزيع في أفريقيا، منتهيا إلى أن المقال يحمل مؤشرات جيدة لعناصر النظر الاستراتيجي الشامل، وهو عند بدر الدين نظر القدرة على طرح الفرضيات الصائبة وعلى التنبؤ بارهاصات المستقبل المكنونة.
حصيلة تجارب
عندما اعتلى الدكتور أمين مكي مدني المنصة وجد نفسه في موقف ليس بالسهل، فبدر الدين رغم علمه بالقانون، عمل ما يقارب نصف عمره وزيرا ومسؤولا عن المالية والاقتصاد والصناعة والعمل والشؤون الاجتماعية، لذا كان من البديهي أن يضم كتابه حصيلة وعصارة لتجاربه الثرة تلك ولإسهاماته في الأوساط المحلية ومداخلاته في المحافل الاقتصادية الدولية.
ويستعرض صفحات الكتاب متوقفا عند مقارنة المؤلف بين اقتصاد السوق ومجتمع السوق، بالتأكيد على أن لا يصبح السوق محددا للاختبارات الاجتماعية والقيم والمثل الأخلاقية.
ويخلص الدكتور أمين في استعراضه الشيق إلى الإقرار بأننا بحاجة إلى صيغة ديمقراطية حقيقية تتوافر فيها كل الشروط اللازمة للنمو السياسي والحقيقي. ويستند في هذه الخلاصة إلى قول المؤلف (نحن مدعوون لوضع حد للوهن والاضمحلال وانحلال قوى البلاد السياسية). ويضيف الدكتور أمين عبارة (التي عانينا منها تحت النظم كافة، خاصة العسكرية منها).
دواخل الشاعر
حين استلم المجال الأستاذ عبد الباسط سبدرات، لم يكن المتحدث سبدرات القانوني الضليع أو السياسي المرموق، بل كان سبدرات الذي طالب برجوع (القمرة لوطن القماري)، بدا لي أن سبدرات حن إلى الشاعر في دواخله، فأخرجه في تلك الليلة ليلقي كلمة مؤثرة في حق الأستاذ بدر الدين سليمان الذي يحرص دائما على زيارته في مكتبه من حين لآخر ليتأكد من أن (سبدرات حي ويرزق). سبدرات قال كلاما طيبا في حق بدر الدين وزمالته وريادته.
كان حديث سبدرات صادقا ومؤثرا سعى به إلى إعلاء قيمة الفرد في حياتنا، وتأسيس ثقافة الاعتراف بأفضال الآخرين، بدا لي كأنه يقول لنا بدر الدين سليمان أو أقصى العقوبة لحب السودان. ولا يقلل من هذه المبادرة دفقة الشجن الأليم التي تملأ كلمات سبدرات حين تأتي سيرة الصعود والهبوط في لعبة كراسي السلطة.
نحن الآن على مشارف خواتيم جلسة استعراض كتاب الأستاذ بدر الدين سليمان الحضور في انسجام تام وسط محيط ثقافي راق الكل يجلس حسبما وجد مكانا خاليا وزير مهم جدا مثل الأستاذ السموأل خلف الله وزير الثقافة يجلس وسط الحضور كمثقف يسعده المشاركة في مثل هذا اللقاء. ووزير أكثر أهمية هو الأستاذ حسن عبد القادر هلال المشغول بهموم البيئة قبل أن يصبح وزيرا لها يدعو أن تهتم عملية الحراك الثقافي بمسألة تغير المناخ من أجل بث الوعي الذي يضمن تحقيق التنمية المستدامة.
بلاغة الجمهور
فوق الصفات الجميلة والنبيلة التي يمتاز بها أستاذ الأجيال علي شمو فهو في خطابنا الإعلامي صاحب مدرسة التحول من بلاغة السلطة إلى بلاغة الجمهور، والمرجع أن كل التغطيات الإعلامية التي أدارها أو أعدها تميزت بأن الخطاب الإعلامي كتب بلغة الجمهور وليس بلغة السلطة، ليت الدكاترة الأجلاء أساتذة الإعلام في الجامعات السودانية وهم ما أكثرهم يهتمون بتكليف أحد طلابهم لإعداد أطروحة بعنوان (البروفسيور علي شمو من خطاب السلطة إلى بلاغة الجمهور).
غير أن أهمية إفادة شمو عن كتاب بدر الدين أنها أعدها كباحث رصين أولا وكمثقف ملتزم ثانيا. ورغم صعوبة الموضوع فقد نجح في استعراض الكتاب بصورة مبسطة تضئ الكثير من المسالك للقراء.
يبدأ شمو يتأكيد أن الكتاب يعلمنا أهمية تحديد موقع المجتمع السوداني في السياق التاريخي عبر جهد منهجي يمزج المعرفة الحديثة بالواقع الاجتماعي للحياة السودانية.
وحسب شمو فإن هذا الكتاب يجسد بدر الدين نموذجا لباحث مخلص ومفكر مجتهد في السياسة والاقتصاد، رغم أنه خريج قانون.
ويلفت أنظارنا إلى أن قراءة كتاب الأستاذ بدر الدين سليمان تكشف عددا من الخصائص والسمات المهمة لأسلوبه كباحث موسوعي، لا يتطرق إلى موضوع من الموضوعات إلا بعد الإحاطة بكل ما كتب عنه من الباحثين الغربيين والعرب. ومن بين هذه السمات الالتزام بصرامة المنهج العلمي مع الحرص على وضوح الأفكار وبنائها في السياق الذي يخدم الفكرة الأساسية للموضوع. ولعل بدر الدين المسكون بموسوعية العلامة التجاني الماحي منذ الصبا الباكر، تراه في كل ما يكتب يقتطف فقرة ما أو يستعير لهجة أو تركيبا لغويا، وأغلب محاولاته تقترب من الجوهر الذي يتطلب إدراك التغييرات الأساسية التي طرأت على القيم وما يصاحب هذا التغيير من عناء قسوة على روح الإنسان واستقامة رؤيته للأحداث والمشاكل.
ويخلص إلى أن هذا الكتاب أضاف للمكتبة السودانية جهدا فكريا مهما في تحليل العلاقة المتشابكة المعقدة بين السياسة والاقتصاد والمجتمع، وما يسفر عنها من تعقيدات وخصومات وآحن. كما يعد اهتمام الكتاب بالثقافة من أجل التنمية ناقوسا لإثارة الانتباه إلى المضمون الحقيقي للتنمية المتمثل أساسا في الإنسان.
وطن موعود
لم يشأ الأستاذ بدر الدين سليمان أن يفسد تلك الليلة بحديث طويل كان أم قصير، كل الذي فعله شكر الحضور على الحضور الأنيق وشدد على رؤية وطن موعود لا مفقود يسهم في بناء حضارة إنسانية تفسح المجال لمعاني التجلي الإنساني والتعبير عن ذكر الله ولتحرير البشرية من العقوق للملكوت الإلهي وللفطرة الإنسانية ولمحو المظالم التاريخية التي ابتلى بها المستضعفون في الأرض.
اللهم يا أكرم من سُئل ويا أوسع من جاد بالعطايا، يا من له الأسماء الحسنى والصفات العُلا، تقبل عبدك بدر الدين محمد أحمد سليمان في دارك، دار البقاء. وأغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأجعل له من فضلك ورحمتك وجنتك حظاً ونصيبا. وأغفر لنا أجمعين ما قدمنا وما أخرنا وما أنت به أعلم منا، إنك أنت الغفور الرحيم.