ملفات

الذاكرة السودانية .. تجربة تأميم الصحافة في السودان أغسطس 1970 (1 ـ 2)

محمد الشيخ حسين

دخلت الصحف إلى السودان في أيام الحكم التركي المصري (1821 ــ 1885)، خاصة في عهد الخديوي إسماعيل، وذلك عندما بدأت صحيفة (الوقائع) المصرية تنشر للأدباء السودانيين بتشجيع حكمدار السودان جعفر باشا مظهر.

تاريخ الصحافة
بدأ تاريخ الصحافة الحديثة في السودان بصدور صحيفة (السودان) في سنة 1903 التي صدرت نصف شهرية بواسطة بعض “الشوام” الذين يعملون في الخدمة المدنية بالبلاد آنذاك.

وكانت بداية نشر الدوريات في السودان في تاريخ سابق لصدور جريدة السودان حيث أصدرت قوات كتشنر أثناء زحفها على السودان نشرتين في عام 1896م. كما أصدرت الحكومة الاستعمارية الغازيتة السودانية عام 1899.

وصدرت صحيفة (النيل)، وهي أول صحيفة سودانية يومية بتوجيه من السيد عبد الرحمن المهدي وترأس تحريرها الصحفي المصري حسن صبحي، ثم أعقبه على رئاسة تحريرها أول صحافي سوداني وهو حسين شريف.

ولا ننسى الفضل الكبير في ترسيخ تجربة الصحافة بالسودان، والذي يعود للصحفي عرفات محمد عبد الله رئيس تحرير مجلة الفجر.

وشهدت فترة الثلاثينيات من القرن الماضي ظهور صحف أدبية انعكاسا لتأثير مصر على السودان، وكان عدد من السودانيين الذين تلقوا تعليمهم في مصر قد شاركوا بالكتابة في صحافة مصر وتأثروا بها.

قانون 1930
صدر أول مرسوم لتنظيم مهنة الصحافة عام 1930، وكان يهدف إلى تكريس قبضة السلطات الاستعمارية على الصحافة التي أخذت آنذاك في النمو، خوفاً من دعم تطور الحركة الوطنية السودانية عقب تصاعد نشاط مؤتمر الخريجين. وتبلور ذلك النشاط في قيام الأحزاب السياسية التي أصدرت صحفاً خاصة بها للتعبير عن أهدافها، حيث أصدر حزب الأمة صحيفة باسمه عام 1944، وأصدر حزب الأشقاء صحيفة باسمه عام 1948م، والحزب الشيوعي الذي أصدر صحيفة الميدان، وصدرت (الأخوان المسلمون) لسان حال حركة الأخوان المسلمين.

وقد ساهمت الصحافة في تحقيق الاستقلال وكانت أداة فاعلة في تعبئة الرأي العام حول قضايا التحرير، واستطاعت أن توحد جهود أبناء السودان لنيل الاستقلال في العام 1956.

ومثلت فترة الأربعينيات من القرن الماضي أخصب الفترات التي شهدتها الصحافة السودانية حيث شكلت البداية الأولى للصحافة السياسية الجادة، وهي الفترة التي ظهرت فيها أول مجلة سياسية مصورة تصدر في السودان (السودان الجديد) واستمرت كمجلة لمدة أربع سنوات ثم تحولت إلى جريدة يومية في 1943م، واستمرت في الصدور حتى تم تأميمها في أغسطس 1970.

صحيفة الرأي العام
صحيفة الرأي العام

الصحافة المسائية
شهدت نفس فترة الأربعينيات صدور أول جريدة مسائية في السودان (الرأي العام) لفترة قصيرة، وتحولت إلى جريدة صباحية في 1945م، واستمرت في الصدور حتى تمّ تأميمها في أغسطس 1970. وهي الفترة التي شهدت أيضا صدور أول جريدة إقليمية (كردفان 1945)، لصاحبها الفاتح النور واستمرت في الصدور حتى أممت في أغسطس 1970.

وشهدت الفترة ظهور الأحزاب السياسية: الأشقاء، 1942، والأمة 1945. وتمكنت التعددية السياسية التي أحرزت الاستقلال من إنعاش الصحافة السودانية وتعددت الإصدارات الصحافية، وبرز جيل من رواد العمل الصحافي أمثال: أحمد يوسف هاشم (السودان الجديد 1943) والملقب (أبو الصحف)، فضل بشير (السودان الجديد)، إسماعيل العتباني (الرأي العام 1945)، يحيى محمد عبد القادر (مجلة المستقبل 1949)، عبد الله رجب (الصراحة 1949)، بشير محمد سعيد ومحجوب محمد صالح ومحجوب عثمان (الأيام 1953)، رحمي سليمان (الأخبار 1955)، عبد الرحمن مختار (الصحافة 1961)، ومحمد الحسن أحمد (الأضواء 1968).

أحمد يوسف هاشم (أبو الصحف)
أحمد يوسف هاشم (أبو الصحف)

وظهرت أسماء لامعة في سماء الصحافة السودانية منهم: حسن نجيلة، زين العابدين حسين شريف، محمد سعيد معروف، محمود إدريس، التجاني الطيب بابكر، والفاتح التجاني، ومجموعة أخرى من الصحافيين المتميزين الذين قدموا مثالاً طيباً لخدمة قضايا الوطن والمواطنين.

حرية الصحافة
بعد استيلاء الفريق إبراهيم عبود على السلطة في نوفمبر 1958 عطلت الأحزاب وتبع ذلك تعطيل الصحف، وأصدرت الدولة صحيفة (الثورة) وترأس تحريرها كل من عبد الله رجب، محمد الخليفة طه الريفي، وقيلي أحمد عمر.

وظهرت الصحف المستقلة والحزبية عقب ثورة أكتوبر 1964، ثم توقفت الصحافة الحزبية عقب قيام نظام مايو 1969.
وكان الرئيس جعفر نميرى قد منع صدور الصحف الحزبية بطبيعة نظام حكمه الذي ناهض التعددية، وصدرت صحيفة أخبار الأسبوع وصحيفة الأحرار للتعبير عن توجهات السلطة، ومن ثم جرى تأميم الصحف في 1970.

وفي عام 1973م صدر أول قانون وطني للصحافة والمطبوعات بديلاً للقانون الاستعماري لعام 1930م ، وآلت بموجبه الصحف إلى (الاتحاد الاشتراكي السوداني) الحزب الحاكم.

وأصبح مجلس الصحافة والمطبوعات الذي نشأ بموجب قانون الصحافة والمطبوعات عام 1973م يتبع لوزارة الثقافة والإعلام،
بعد أن كانت شئون الصحافة قبل ذلك من اختصاص وزارة الداخلية. وأصبح مجلس الصحافة والمطبوعات مكلفاً بإدارة نشاط الصحفيين وتصديق الشهادات وتخطيط العمل الصحفي عامة ليكون ملائماً لإطار أيديولوجية السلطة الحاكمة وصدرت صحيفتان يوميتان ، وهما الأيام والصحافة.

صحيفة الأيام
صحيفة الأيام

حرية الصحافة هي الضمانة التي تقدمها الحكومة لحرية التعبير وغالباً ما تكون تلك الحرية مكفولة من قبل دستور البلاد للمواطنين. وتمتد لتشمل مؤسسات بث الأخبار وتقاريرها المطبوعة. وتمتد تلك الحرية لتشمل جمع الأخبار والعمليات المتعلقة بالحصول على المعلومات الخبرية بقصد النشر.

وفيما يتعلق بالمعلومات عن الحكومة فلا تتدخل الحكومة في حرية الصحافة إلا ما يتعلق بشؤون الأمن القومي.
وتعني حرية الصحافة بالنسبة للعديد من البلدان ضمنا بأن من حق جميع الأفراد التعبير عن أنفسهم كتابة أو بأي شكل آخر من أشكال التعبير عن الرأي الشخصي أو الإبداع. وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، ويتضمن هذا الحق حرية تبني الآراء من دون أي تدخل والبحث عن وتسلم معلومات أو أفكار مهمة عن طريق أي وسيلة إعلامية بغض النظر عن أية حدود.

وعادة ما تكون هذه الفلسفة مقترنة بتشريع يضمن حرية النشر والطباعة إلا حدود تمس الأمن القومي، فالصحافة إعلام وتنوير وليست تضليل وإشاعات. أما عمق تجسيد هذه القوانين في النظام القضائي فتختلف من بلد لآخر فهي تصل إلى حد تضمينها في الدستور، وغالبا ما تغطى نفس القوانين مفهومي حرية الكلام وحرية الصحافة مما يعني بالتالي معالجتها للأفراد ولوسائل الإعلام على نحو متساو.

سادت في السودان منذ استقلاله في عام 1956 وحتى العام 1969 حالة من عدم الاستقرار السياسي، حيث شهدت البلاد انقلابين عسكريين كرسا وجود الأنظمة الشمولية لمدة 22 عاما من أصل 29 عاما تمثل عمر السودان المستقل  حتى نهاية مايو في 1985م. ولم تستمر الفترات الديمقراطية في خلال هذه الفترة 1956 ـ 1985  من تاريخ السودان الحديث سوى سبعة أعوام.

جاءت مايو
قامت مجموعة ممن يسمون أنفسهم بالضباط الأحرار وأحد المدنيين بالاستيلاء على السلطة في فجر الخامس والعشرين من مايو 1969. وكانت عملية الاستيلاء انقلاباً أبيضاً دون إراقة دماء، وتم استلام السلطة في سهولة فائقة.
وترجع هذه السهولة في عملية الاستيلاء لاهتراء النظام الذي انقضت عليه مجموعة مايو دون أن تجد أي معارضة شعبية. كان الشعور السائد بين الناس آنذاك هو شعور بالإحباط واليأس من تجربة الديمقراطية الليبرالية التي انتظمت البلاد بعد ثورة أكتوبر 1964.

وأثبتت الأحداث أن زعماء الأحزاب في تلك الفترة لم يعوا الدرس خلال سنوات حكم الفريق إبراهيم عبود (نوفمبر 1958 أكتوبر 1964)، إذ سرعان ما دبت الخلافات الحزبية والتنازع على السلطة وغلبة الولاءات الطائفية والحزبية على ولاءات المواطنة.

ودون الدخول في تفاصيل الحياة السياسية في السودان قبل مايو 1969، نود القول إن الجو كان مهيأً تماماً لظهور شئ ما وقد خيل للبعض أن المارد العسكري قد لا يخرج من قمقمه مرة أخرى بعد عودته لثكناته بصورة مهينة بعد ثورة أكتوبر 1964. ولكن المارد العسکري فاجأ البعض وأستيقظ الناس صباح الخامس والعشرين من مايو 1969 على صوت العقيد جعفر محمد نميري يعلن عن اندلاع ثورة مايو وللأسباب السابقة فقد تم الانقلاب دون أية مقاومة أو معارضة شعبية، بل على العكس وجد الثوار الجدد تأييداً شعبياً.
وهكذا عاد الجيش مرة أخرى إلى الحياة السياسية بعد أقل من خمس سنوات من تجربة عبود.

نسجل في هذا العرض الموجز أن قلة المعلومات وندرتها عن قصة وتفاصيل الانقلابيين تجعل من العسير جداً أن نقدم صورة دقيقة للأحداث التي سبقت وقوع الانقلاب، فضلاً عن أن الضباط الأحرار أنفسهم الأحياء منهم والأموات لم يتركوا لنا بكل أسف شيئاً مدوناً أو موثقاً عن دوافعهم وأهدافهم من ذلك الانقلاب ومن أي المنابع الفكرية بدأ تحركهم.

واقع الصحافة
لم تكن الصحافة السودانية قبل مايو 1969 ذات سمعة حسنة فقد جنحت إلى الإثارة وجني الأرباح ولم تهتم بالتثقيف أو التنوير، وقد أورد السياسي المخضرم وعضو مجلس السيادة لدورتين خضر حمد في مذكراته نماذج متعددة للمستوى الذي انحدرت إليه الصحافة في تلك الفترة وقد قيّمها خضر حمد  في عبارته (ما من بلد في العالم أساءت صحافته استعمال الحرية حتى أصبحت فوضى كما فعلت صحافة السودان، ولقد كانت الصحافة جميعها هدامة أعدت نفسها لتهدم لأن الهدم والشتائم والرسوم المضحكة يجذب انتباه القارئ، وبذلك تروج الصحيفة ويزداد توزيعها وينتفخ جيب صاحبها).

وانقسمت الصحافة في تلك الفترة إلى صحافة مستقلة يملكها الأفراد وصحف حزبية تصدرها الأحزاب، وبعد قيام سلطة مايو أوقفت الصحف الحزبية بعد إلغاء الأحزاب وحظر النشاط الحزبي في البيان الأول.

الطريق إلى التأميم
ما ان أكملت مايو عامها حتى حضر عيد ميلادها الأول الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وفي ذلك الاحتفال قامت سلطة مايو بعملية تأميم ومصادرة للمؤسسات الأجنبية العاملة آنذاك وبعض المؤسسات السودانية، ولم يكن التأميم فی ذاته خطأ وقعت فيه مایو بحسبان الشعارات الاشتراكية التي رفعتها ولكن الخطأ الجوهري الذي وقعت فيه هو الأسلوب الذي تم به التأميم، ويصف د. منصور خالد  هذا الأسلوب الذي تم به التأميم بأنه (تم دون دراسة وتحلیل اقتصادي يثبت جدواه). وسارت مايو في مسار التأميم خطوات واسعة وأخذت المؤسسات المؤممة أسماء ثورية براقة.

بشير محمد سعيد
بشير محمد سعيد

وفي خضم هذه الأحداث استمرت الصحف المستقلة في الصدور ودخلت في مصادمات مع قادة مايو أجملها عبد الرحمن مختار مؤسس ورئيس تحرير جريدة الصحافة في كتابه خريف الفرح، في طلب بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة ظهور صورهم بأوضاع معينة وذكر أنه كان يقابل طلباتهم بالرفض.

وتمخض عن هذا الرفض من قبل أصحاب الصحف، كما ذكر عبد الرحمن مختار عن صدور قوانين في غاية القسوة والطرافة ونصت تلك القوانين على عقوبة الاعدام لرئيس التحرير ومصادرة صحيفته وممتلكاته إذا وجه أي نقد مباشر أو غير مباشر لأعضاء مجلس قيادة الثورة أو الوزراء أو كبار رجال الدولة.

ويعزي عبد الرحمن مختار مسألة تأميم الصحف إلى هذه الأسباب ولكن فيما يبدو أنها كانت أسبابا واهية ، ورد الفعل الذي نتج من المصادمات بين قادة مايو وأصحاب الصحف تمثل في الرقابة المباشرة  على الصحف وازدادت حدتها  بعد أحداث مارس 1970.

غير أن الأحداث في ذلك الوقت كانت تنذر بأن ثمة أمراً يدبر للصحف وإن بعض الأصوات كانت تطالب بعدم وجود صحافة خاصة في ظل التحول الاشتراكي الذي يعيشه المجتمع آنذاك، وهذا ما سنتناوله في الجزء الثاني الأسبوع المقبل.

المراجع
1/ مذكرات خضر حمد ص 321  مطبعة الشارقة 1981.
2/ البيانان الأول والثاني لثورة مايو، إضافة إلى أن أحد الهتافات الرئيسية في مواكب تأييد مايو لا أحزاب بعد اليوم
3/ د. منصور خالد ، النفق المظم – قصة الفساد والاستبداد 1985 ، ص 36 – 37.
4/ عبد الرحمن مختار خريف الفرح  1985 مؤسس وصاحب جريدة الصحافة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى