الذاكرة السودانية: حوار الأطراف المعنية في الكتب السودانية (2 ــ 2)

محمد الشيخ حسين
“بعد ثلاثة أيام من الانقطاع عن القراءة سيصبح الكلام بلا نكهة”، بهذه الحكمة الصينية القديمة نبدأ رسم خارطة طريق لحوار الأطراف المعنية في السودان.
قال الناقد الفرنسي رولان بارت، وهو أحد نقاد ما بعد الحداثة إن الكتابة ما هي إلا نقل عن الكتاب الآخر (جملة ما كتب من نصوص في لغة ما). وأن الكُتّاب عندما يكتبون لا يعبرون عن ذواتهم، وإنما يقومون بالتوليف بين نصوص موجودة فعلا. فالكتابة إذاُ، من وجهة نظر بارت، ما هي إلا إعادة تشكيل لمادة سابقة يقوم بها الكاتب ليخرج منها نصه الجديد. وهذه المادة هي نصوص المؤلفين الآخرين. وغالبا ما تحدث هذه العملية بصورة لاشعورية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن قراءة النص تصبح بمثابة فك لشفرته السرية وكشف عن النصوص التي ذابت في وعي كاتب النص وتحولت إلى عناصر ومكونات لنصه الجديد. وهكذا كلما اتسع أفق القارئ من النصوص زادت قدرته على الولوج إلى النص وفك مغالقه.
يطلق النقاد على حضور نصوص قديمة في النص الجديد مصطلح التناص.
ويمثل حوار الأطراف المعنية في الكتب السودانية نموذجا فريدا لظاهرة التناص، فهو لا يدّعي تقديم نص جديد، وظاهرة أنه يعرض كتبا لمؤلفين آخرين. والكاتب حريص كل الحرص على نصوص الآخرين، مبقياً على نصه هو في الظل، بينما العملية الإبداعية تقوم في العادة على البراعة في إخفاء النصوص الأخرى التي يستخدمها المؤلف في صناعة نصه. لكن باطن الأمر غير ذلك، فالكاتب يوظف تلك النصوص لطرح رؤيته الخاصة، ويدعو القارئ إلى عالمه هو أكثر مما يوجهه إلى عوالم مؤلفي تلك الكتب، حتى أنه قد يُخّيل للقارئ أن الكتب المعروضة ما هي إلا أمثلة توضيحية للقضايا التي تشغل الكاتب. ذلك لأن الكاتب ربما ظن نفسه واحدا من سدنة الكتاب الأكبر الذين يشبه دورهم دور حراس المعبد: حفظ الكتاب وإثرائه وصقل صفحاته وتنظيم دخول الآخرين إلى حضرته وإرشادهم إلى معانيه.
أكبر الكتب
كتاب السودان الأكبر هو الذي كتب ود ضيف الله مقدمته وخط فيه الشعراء والكُتّاب والمفكرين سطورا وصفحات تفاوتت طولا وقصرا بقدر ما جادت به قرائحهم وحسب قدرتهم على التعبير عن روح هذا الشعب. ذلك الكتاب الذي أودع فيه هذا التجمع السكاني في هذه البقعة من أرض الله، آماله وأحلامه، آلامه وأحزانه، رؤيته للعالم، ذاكرته، هويته، وهو الذي حوى نقوش العقل السوداني.
فحوار الأطراف المعنية في الكتب السودانية، إذا هو قراءة في الكتاب الأكبر الذي تمثل الكتب المعروضة بعض سطوره. وهو دعوة إلى التحول عن القراءة العاطفية إلى القراءة النقدية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا الوطن. ومهمة النقد سواء كان ثقافيا أو اجتماعيا هي التصدي للإشكاليات والقضايا المعضلة دون تبسيط أو اختزال. إذ لم يعد من المقبول أن يظل الوطن عالما متخيلا من المثاليات والإيجابيات ولا أن تصاغ الهوية من أحلامنا وأوهامنا. فالوطن واقع معاش حافل بالتعقيدات والتناقضات. والهوية هي ما هو كائن في عالم الواقع الموضوعي لا ما نريده ونتمناه. هل كان (مولود الغابة والصحراء) مولودا حقيقيا أم أنه كان حملا كاذبا صدقناه لما فينا من خصال إنكار الواقع والتعلق بعالم المثال؟ لماذا لم نصغ إلى ذلك الشاعر محمد عبد الحي الذي عبر عن الحيرة والالتباس بقوله:
• بدوي أنت؟
– لا.
• من بلاد الزنوج.
– لا.
أنا منكم، تائه عاد يغني بلسان
ويصلي بلسان – من بحار نائيات
فهم الواقع
ما أسهل الكتابة عما ينبغي أن يكون، وإسداء النصائح وإصدار التوجيهات، لكن ما أصعب فهم الواقع وتفسير معطياته وموجهاته. الوطن الحقيقي هو (دومة ود حامد) بعد أن أصابها ما أصابها من التحولات حتى أضحت رمزا لعالم مضاع ومستقبل غامض. وعبّرت عن أزمتها الوجودية لكن الرؤيا التي بكى فيها جميع المصلين الخارجين من مسجد القرية في ذلك الفجر الحزين بكاءً مرّاً تحت وطأة الإحساس بفقدان المعنى وطعم الأشياء، ولسان حالهم يقول حسب وصف المبدع الطيب صالح في بندر شاه (لقينا شيء وضاع منا شيء ذلك النهار، لا ندري البكاء على أيش وألاّ أيش على اللقيناه وألاّ على الضاع)، وأمام أعينهم تجندل كل من الماضي والمستقبل مضرجين في الدماء حسب بندر شاه (كان الماضي والمستقبل قتيلين لا يجدان من يواري جثتيهما أو يبكي عليهما).
فالمشكلة إذاً لا تكمن في الممانعة للحداثة التي يتأسف عليها الكثيرون ويدفعون إلى إزالة العقبات عن طريقها بكل ما أوتوا من قوة، وإنما في الثمن الذي يتوجب علينا دفعه مقابل الدخول في الحداثة: الاضطراب الاجتماعي وانهيار منظومة القيم التقليدية. هل هي صفة عادلة؟ ما مصدر خيوط الفوضى التي تتجمع أمام أعيننا وتتكاثر كل يوم جديد حتى صارت الفوضى على لسان بندر شاه (كأنها تنفجر من تحت أقدامنا).
لماذا يصر الجميع على عقد صفقة الدخول في الحداثة بوعي أو بدون وعي دون النظر إلى حال البلد التي صارت كأن طائراً رهيباً اقتلعها من جذورها وحملها بمخلبه، ودار بها ثم ألقاها من شاهق، وكان الناس يجرون ها هنا وها هناك، يبحثون عن شيء ولا شيء، يبحثون عن المصدر وليس ثمة مصدر، حتى المعرفة تغير معناها دون أن ننتبه إلى ذلك أثناء السير الحثيث إلى جنة الحداثة التي لم يظهر لنا منها حتى الآن سوى السراب. اختفت معاني العرفان والإشراق وغابت عن أفقنا إلى غير رجعة. لم يعد لتلك المعاني مكانا في نفوسنا بعد أن كانت موئل نفوسنا وملاذها. لم يعد يشغلنا السر ولا سر الختم ولا سر النشأة الأولى ولا سر المصير. كل ما يشغلنا هو الشيء ومقدار الشيء والعرض والمظهر. ونسينا ما قاله ذلك الشاعر النور عثمان أبكر:
لعمري لن نفض السر ما عشنا
سنعرفه قبيل الموت، نعرف ذاتنا العليا
ترى تقوى
نمد الوهج للباقين؟
كنا في الماضي أغنياء غنى الزهد، وعالمنا قائم على التناغم والتعاطف والرضا.
كنا إذا مدحنا أحدنا قلنا عنه ما قاله إدريس جماع:
هو كالعود ينفح العطر للناس ويفنى تحرقا واشتعالا. وإذا رثينا آخرا قلنا له على لسان مريود الطيب (لقد أحب بلا ملل، وأعطى بلا أمل. وحسا كما يحسو الطائر. وأقام على سفر وفارق على عجل. حلم أحلام الضعفاء وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها). لكن ذلك لا يعني أننا كنا نعيش في عالم مثالي ولا أننا كنا ملائكة تمشي على الأرض. كانت لنا سلبيات تستوجب التوقف عندها ونقدها والعمل على إصلاحها.
أما وقد حل الاضطراب وأختل ذلك التناسق في الكون، حسب بندر شاه (فإذا نحن بين عشية وضحاها لا ندري من نحن وما هو موضعنا في الزمان والمكان). وصارت الفوضى هي السمة الملازمة لوجودنا. وهلّ علينا زمن النزوح، ليس نزوحا في المكان أو الزمان، وإنما النزوح من عالم إلى عالم. وصرنا نردد آناء الليل وأطراف النهار مع دومة ود حامد (آه منك يا زمن النزوح) أنشودة حزينة نودع بها عالما مضى حاملا معه بعض أرواحنا وكل أحلامنا. وليست هشاشة بناء الدولة، وتعثر مساعي صياغة الهوية، والإخفاق في إدارة التعدد، والعجز عن تحويله من عامل تفتيت وصراع إلى حافز إثراء وتكامل، وافتقار المجتمع إلى بؤرة تجميع، إلا مظاهر متفرقة لذلك التيه الجماعي الذي دخلنا فيه بعد أن فارقنا عالمنا الأول وعدونا خلف السراب. وفي ذلك أيضا تعبير عن الأزمة الوجودية التي أفرزها تآكل منظومة القيم القديمة.
لجأ حوار الأطراف المعنية، أمام هول تداعي العالم التقليدي بما يحمله من قيم ورؤى عن الوجود والإنسان، إلى جبل يعصمه من الطوفان: الذاكرة الجمعية. والذاكرة الجمعية شيء والتاريخ الأكاديمي الذي يكتبه المؤرخون نقلا عن الوثائق وأضابير الأرشيف شيء آخر. ذلك أن ذاكرة الشعب هي جزء من روحه، يختزن فيها ماضيه كما يراه وليس كما كان في الحقيقة، ويستشرف من خلالها مستقبله. وعامة الشعب في الغالب تقرأ عن كتب التاريخ ولا تهتم بجدل المؤرخين وخلافاتهم، لكنها في الوقت نفسه تمتلك تصورا متكاملا عن الماضي تتخذه منظارا تنظر به إلى ذاتها وإلى الآخرين وإلى العالم من حولها.
وسعى حوار الأطراف المعنية جاهدا إلى شحذ الذاكرة الجمعية بغرض دعم صمودها في مواجهة النشأة المستأنفة للعالم المجهول والغامض الذي يرتسم أمامنا. لم يكن هدفه استرجاع الماضي ولا البكاء على أطلال العالم المضاع. كما لم يكن باعثه إلى ذلك الحنين إلى ما يعلم يقينا أنه لن يعود. وإنما كان مدفوعا برغبة صادقة في المشاركة في تأسيس الوعي والارتقاء به، مذكرا دائما بأن مخاض الدولة السودانية مازال عسيرا ومحفوفا بالمخاطر وبأن المجتمع في طريقه إلى إضاعة أسطورته الذاتية، وكم كان صديقي الحميم محمد المكي إبراهيم معبرا عنها:
سبع حمائم
سيل عمائم
نخل في البرية هائم
موكب وعد، موكب إمكانات أمتنا
نار ودخان
وثن . طبل . قرآن
طفل ظل يقوم الليل ويمسك في رمضان
حلم برفاء الأرض وخوف من فتكات الغيب لمقبل أمتنا
عذراء تقلب القمة أمتنا
الألسن والشهوات هنا عذراء!
جمع الكُتّاب من مؤلفات لمؤلفين من مشارب مختلفة تعبيرا عن حرص المصنف على قيمة التناغم والانسجام. تلك القيمة التي تحتل موقعا مركزيا في منظومة القيم التقليدية ولكنها في الآونة الأخيرة إلى تعب أخيل، أضعف حلقات الجسم الاجتماعي. ومع هذا الحرص على التوفيق والجمع والتوليف لم يخف حوار الأطراف المعنية تقديره الخاص لجيل الستينيات، جيل الأحلام العريضة والانكسارات الكبيرة، الجيل الذي أشرابت أعناقه إلى الحداثة فسعى لها سعيها وجدّ وكدّ واجتهد، لكنه اكتشف بعد فوات الأوان أنه لم يحقق سوى قبض الريح وحصاد الهشيم. وكأن قدرا (شكسبيريا) قد عصف بتلك الأحلام وأطاح بنقاط الارتكاز والأطر التي كانت تكّون عالمه الوديع المتماسك.
هذا الكتاب ليس تعريفا بالكتب التي يعرضها فحسب، وإنما هو دعوة إلى قراءتها بعد أن جعل من كل واحد منها حلقة في سلسلة القضية الكبرى: التنوير السوداني وليس التنوير الذي يقصده المصنف هو ذلك الذي دعت إليه أدبيات الحداثة الأوروبية، وإن استعار منها المصطلح. وآية ذلك اهتمام المصنف بقضية التراث والذاكرة وحرصه على جمع الشهادات والسيّر، وإكثاره من الالتفات إلى الماضي، استلهاما للحكمة القديمة التي كانت أصدق تعبيرا عن المعنى وعن جوهر الإنسان وحقيقة وجوده، قبل أن تعلوها الإدعاءات الجوفاء وتطمرها المعارف الزائفة والأكاذيب.
أهتم المصنف بالمنهج اهتمامه بالمضمون، وكان في كل مقال وفيا لمنهجه، صارما في تطبيقه. يقوم هذا المنهج في قراءة النصوص على التركيز على السياق باعتباره مفتاح فهم النص. والسياق الذي يهتم به المصنف هو بيئة المؤلف وجذوره الأسرية على طريقة ود ضيف الله في ذكر الأعيان. وفي ذلك إشارة واضحة إلى قوة ارتباط السودانيين بولاءات وانتماءات أسرهم وتأثير ذلك على المنظومات الذهنية للكُتّاب والمفكرين.
حوار الأطراف المعنية دعوة للقراءة والتفكير والتأمل، للعبور من الفكرة إلى المعنى، لاستعادة وهج الكلمات، لصحو الكلمات المنسية بحثا عن الحقيقة المطمورة وراء القوالب والأشكال والمظاهر وقشر الكلام، رد على ذلك الشاعر محي الدين فارس الذي قال عنّا:
وتهرب منا عيون الطريق وتشتبه الأمكنة
وتفقد فينا هويتها … الأزمنة
لأن بضاعتنا كلمات من الرمل
ما بللتها مياه الحقيقة
أوان من الطين .. تشرد منها
عواطفنا من ثقوب دقيقة
تبخرها الشمس .. تمتص منها النخاع
وتلقي بها في مهاو سحيقة.