الذاكرة السودانية: قراءة أمنية استخباراتية في سورة يوسف

الذاكرة السودانية.. ملفات تسجل زيارة جديدة إلى التاريخ بهدف استنباط عصر تدوين جديد للأحداث والقضايا والشخصيات السودانية
محمد الشيخ حسين
تبرز القيمة الأولى لكتاب الفريق الدكتور إبراهيم منصور أحمد سوركتي (المفاهيم والأساليب الأمنية والاستخباراتية في سورة يوسف دراسة تأصيلية مقارنة)، في كونه يبين أن العلوم الأمنية والاستخباراتية، وما تشتمل عليه من أسس ومفاهيم وأساليب ومهارات حديثة وقديمة موجودة في ثنايا القرآن الكريم والسنة النبوية.
وثمة قيمة ثانية للكتاب تتمثل في أنه بمثابة دليل يمكن للباحث المتخصص أن يعود إليه في أي لحظة، لتدقيق أو لمراجعة معلوماته في كافة مجالات العلوم الأمنية، كما يتيح للباحث غير المتخصص أن يستعين به لبلورة تصور عام حول أبرز الاتجاهات في المجالات نفسها.
يضم الكتاب الصادر عن شركة مطابع العملة المحدودة، بين دفتيه 428 صفحة، ويحتوي على أربعة فصول، وأصل مادة الكتاب كانت أطروحة جامعية، نال بها المؤلف درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة أمدرمان الإسلامية، بإشراف البروفيسور عبده مختار (العلوم السياسية)، والبروفيسور صلاح الدين عوض (العلوم الشرعية) من معهد بحوث ودراسات العالم الإسلامي بالجامعة نفسها.
قصة يوسف
ماذا يُستخلص من قصة يوسف في القرآن الكريم؟
سورة يوسف بصفة عامة غنية بالسنن والمواضيع الجديرة بالبحث العلمي. والسورة حافلةٌ بمشاهد تتجلى فيها انفعالات: الغيرة، الحزن، الغضب، الخوف، السرور، مشاهد الابتلاء للنبي يوسف بغيرة الإخوة، ابتلاء بالفتنة، ابتلاء بالسجن، ابتلاء بالملك والقوة.
وفي السورة أيضا مشهد لابتلاء النبي يعقوب، بفقدان ابنه، وفقدان بصره، ومشهد لصبره الطويل، وعدم تسرب اليأس إلى قلبه رغم معاناته الشديدة.
وينبه الفريق الدكتور إبراهيم منصور مؤلف الكتاب عبر سبعة أبواب في الفصل الأول من الكتاب بعنوان (تلازم الأمن والاستخبارات ومجالاتها وتفريعاتها)، إلى أن القراءة في سورة يوسف ليست تفسيراً للقرآن الكريم، بل هي محاولة لفهم القرآن الكريم من منظور المفاهيم والأساليب الأمنية، ولا ينبغي أن يُفهم أن هذه المحاولة عبارة عن عمل نهائي في هذا المجال، بل عبارة عن تجربة أراد كاتبها أن يخوضها، وأن يقدمها للباحثين والمهتمين للمناقشة والإثراء. ولعل المؤلف هنا يسير على نهج مالك بن نبي حين تناول في كتابه (الظاهرة القرآنية)، سورة يوسف نموذجا لدراسة القرآن الكريم، كظاهرة من الممكن دراستها علميا وموضوعيا.
قراءة أمنية
إجمالا هذا الكتاب قراءة في ضوء المفاهيم الأمنية والاستخباراتية لسورة يوسف، يهدف مؤلفه، إلى فهم هذه السورة من خلال تناولٍ أمني للأحداث وأنماط السلوك الواردة في السورة، وخاصةً الجانب الوجداني للإنسان، الذي صُوِّر في هذه السورة أحسن تصوير.
ويأمل المؤلف أن يساعد هذا التناول على فهم القرآن الكريم من منظورٍ مختلفٍ عن بقية مجالات التناول الأخرى المعتمَدة في كتب التفسير المعروفة.
وفي صعيد متصل، فإن ما يحتويه الكتاب يعتبر محاولة لفهم الإنسان، وخاصة الجانب الوجداني منه، ودوافعه وكيفية تأثير هذا الجانب في بقية الجوانب، والأبعاد التي تكوِّن الإنسان، سواء كانت روحية وجسمية، أم عقلية ووجدانية وسلوكية، كما جاء ذلك في القرآن الكريم، وكيفية التأثر بها، وهكذا يقودنا المؤلف إلى أن ما جاء في القرآن الكريم، سيكون المنطلق لفهم الإنسان، وليس ما هو وارد في العلوم الحديثة فحسب، كما يلجأ إلى ذلك بعض علماء النفس المسلمين المعاصرين، ذلك أن سورة يوسف كانت، ولا تزال، موضوعا للتأملات والدراسات، بل وللأعمال الفنية، والجديد هنا أن المؤلف تناولها في ضوء المفاهيم الأمنية والاستخباراتية.
الشرعية والمفهوم
تأتي شرعية الأمن في الإسلام من قول الله تعالى (يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين)، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَه).
مغزى هذه الشرعية أن أهمية الأمن قد تجاوزت الحق الإنساني لتجعله فريضة إلهية وضرورة من ضرورات استقامة الحياة، ولهذا نجد أن القرآن الكريم قد أعطى هذا الجانب اهتماما كبيرا، لما له من أثر في توطين النفس البشرية على الرضا والاستسلام والترقب والاهتمام، والملاحظ هنا أن مفهوم الأمن واسع جدا شامل لكل المجالات، وتجد أن له القدرة على استيعاب كل شيء مادي ومعنوي، إضافة إلى أنه حق للجميع أفرادا وجماعات مسلمين وغير مسلمين.
ويشتمل مفهوم الأمن في أغلب دول العالم، على الإجراءات الأمنية التي تتخذ لحفظ أسرار الدولة وتأمين أفرادها ومنشآتها ومصالحها الحيوية في الداخل والخارج وتأمين المجتمع. كما ينبغي أن يشمل مفهوم الأمن مسائل الهدوء والقدرة على مواجهة الأحداث والطوارئ دون اضطراب وحماية الأمة من أي خطر متوقع من قبل قوة أجنبية.
تربية أمنية
استفاض المؤلف في تحليل المفاهيم الأمنية في القرآن الكريم، واستطاع عبر المنهج المقارن أن يتوصل إلى أن القرآن الكريم سبق كل المفاهيم والأساليب الأمنية التي عرفها العالم حديثا، ذلك أن المؤلف حين أبحر في سورة يوسف وجد أن القرآن الكريم قد ذخر بالتوجيهات الأمنية، بغرض رفع المستوى الأمني للأمة أفرادا كانوا أو جماعات.
ومن خلال قراءة آيات سورة يوسف لمس المؤلف التوجيه الأمني في أكثر من آية في هذه السورة بل استطاع القول إن أغلب الآيات الأمنية الواردة في السورة تحدثت عن الأمن، وذلك من خلال نصيحة قدمها النبي يعقوب عليه السلام، لولده يوسف حين أقبل يوسف عليه السلام على أبيه وقص عليه رؤيا رآها في المنام، وفي ذلك يقول سبحانه (إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين، قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين). فقد خشي يعقوب أن يحدث يوسف إخوته بهذه الرؤيا فيزدادوا كراهية له، فكانت نصيحة الأب لأبنه بكتم الرؤيا عن اخوته توجيهاً وتربية أمنية خوفا من الكراهية وما يترتب عليها من غدر ومكر.
هدف الحماية
لمس المؤلف توجيهاً أمنيا آخر خوفا على الولد من الإضرار به، وذلك عندما قال الله تعالى (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون، أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون).
فكان رد النبي يعقوب ردا أمنيا يظهر فيه حيطته وحذره من أن يمس ابنه بسوء أو أذى، ولم يجد يعقوب عليه السلام إلا (التورية والتغطية) سبيلا للتملص من طلب أبنائه، فقال الله تعالى حاكيا عن يعقوب: (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون)، فمن خوفه على يوسف كفى عن ذلك بالذئب، كي يصرفهم عن طلبهم الخطير، فهو يخشى مكرهم، ومتوقع لشرهم بحق يوسف، وكل ذلك كان بهدف (الحماية)، و(تحقيق الأمن لولده)، ولأن للباطل أيضا (أساليبه الأمنية) كان لهم ما أرادوا وغلب الأب الحكيم على أمره.
وتوقف المؤلف كذلك عند قوله تعالى (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب، وقالت هيت لك)، وجد المؤلف هنا جانبا أمنيا من نوع آخر، وهو تأمين النفس من أجل ممارسة ما تهواه من المعصية، حيث غلقت الأبواب تأمينا من الفضيحة ومن صور الأمن الواردة في السورة قول الله تعالى (قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه)، حيث فضل يوسف أن يدخل السجن وألا يقع في خيانة سيدة وما تدعوه إليه النسوة من الغواية والجهل.
الحق والباطل
معلوم أن سورة يوسف من السور التي تعتمد على القصة لتعليم الناس دروسا في السلوك واستخلاص العبر من تجارب الآخرين. وقد استفاض المؤلف في قراءة سورة يوسف أيضا، خاصة الآيات التي تتناول بالعرض المفصَّل حياة الأنبياء ومحيطهم النفسي الاجتماعي، وما لاقوه في سبيل الدعوة إلى الحق من متاعب وأهوال وأحزان.
ويقودنا المؤلف إلى أن سورة يوسف نموذج للصراع بين الحق والباطل، وبين العقل والهوى، وبين المصالح الشخصية المبنيَّة على الأنانيَّة، وخدمة المصلحة العامة للأسرة والمجتمع والإنسانية.
ويقدم لنا المؤلف سورة يوسف مثالا واقعيا يبيِّن كيف أن المظلوم قد يعامل كظالم، والبريء قد يصبح متَّهما، وأن شخصا، مهما علا مقامه ومكانته، قد يُحكم عليه زورا وبهتانا، ويُودع السجنَ مع المجرمين.
ويدلنا المؤلف أن سورة يوسف تتجلى فيها الانفعالات البشرية، والحياة الوجدانية للبشر كما هم في الواقع، دون أقنعة، وعندما يحاول بعضهم، مثل إخوة يوسف وامرأة العزيز، اصطناع أقنعة الخير والعفاف، فإنها لا تلبث أن تتساقط كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف.
وينبه المؤلف القارئ المتأمل لقصة يوسف، إلى مدى عمق الانفعالات التي تحرِّك الإنسان، وشدتها في دفعه للقيام ببعض أنماط السلوك.
كما يثمن المؤلف دور الإيمان في ضبط الانفعالات ومراقبتها، ودور تحكيم العقل في إعادة التوازن للجانب الانفعالي المضطرب، وفي ظهور الانفعالات الإيجابيَّة، بدلاً من الانفعالات السلبيَّة التي تطغى على سلوك الإنسان.
أطروحة رائدة
ينتهي بنا الفريق الدكتور إبراهيم منصور أحمد سوركتي عبر أطروحة جامعية رائدة في مجالها وجديدة في موضوعها إلى أن القرآن الكريم يبصرنا أن الحاجة إلى الأمن من أهم الحاجات النفسية، ومن أهم دوافع السلوك طوال الحياة وهي من الحاجات الأساسية اللازمة للنمو النفسي السوي والتوافق النفسي والصحة النفسية للفرد.
والحاجة إلى الأمن حسب آيات القرآن الكريم هي محرك الفرد لتحقيق أمنه، وترتبط ارتباطاً وثيقا بغريزة المحافظة على البقاء وتتضمن الحاجة إلى الأمن الحاجة إلى شعور الفرد أنه يعيش في بيئة صديقة، مشبعة للحاجات وأن الآخرين يحبونه ويحترمونه ويقبلونه داخل الجماعة، وأنه مستقر وآمن أسريا، ومتوافق اجتماعيا، وأنه مستقر في سكن مناسب وله مورد رزق مستمر، وأنه آمن وصحيح جسميا ونفسيا، وأنه يتجنب الخطر، ويلتزم الحذر ويتعامل مع الأزمات بحكمة ويأمن الكوارث الطبيعية، ويشعر بالثقة والاطمئنان والأمن والأمان.
*******
ختاما لقد بذل الفريق الدكتور إبراهيم منصور أحمد سوركتي في كتابه (المفاهيم الأمنية والاستخباراتية في سورة يوسف دراسة تأصيلية مقارنة) جهدا طيبا استغرق زهاء ثلاث سنوات والرجوع إلى أكثر من مائتي مرجع من الكتب والدراسات والدوريات والمعاجم والتفاسير، فكان حصاده هذا الكتاب القيم الذي يفتح بابا جديدا نحو دراسات تأصيلية مقارنة، تسد فراغا في حياتنا العلمية. ولا غرو في ذلك فمؤلف الكتاب رجل أزهري درس التاريخ والحضارة في جامعة الأزهر، وتشرب صبر الأزهريين ودأبهم على البحث والتحصيل، وقبل ذلك كله اعتاد على القراءة المكثفة في فروع العلم كافة، وتلك عادة حميدة تعلمها منذ نعومة أظفاره بإصرار شديد اللهجة من خاله الدكتور عبد الكريم ميرغني، وهو عالم سوداني مرموق، مازال عبق سيرته النضرة يملأ المكان، وأثره الباهي يغطي الزمان، إلى اسمه ينسب حاليا مركز عبد الكريم ميرغني للدراسات، الكائن في أمدرمان.
إنه كتاب جدير بالاقتناء والقراءة.