ملفات

الذاكرة السودانية: مشروع الجزيرة تجربة في التفكير خارج الصندوق

الذاكرة السودانية.. ملفات تسجل زيارة جديدة إلى التاريخ بهدف استنباط عصر تدوين جديد للأحداث والقضايا والشخصيات السودانية

محمد الشيخ حسين

بعد أيام قليلة يكمل مشروع الجزيزة 100 عام من عمره المديد بعد تدشينه في العام 1925 كأكبر مشروع زراعي في أفريقيا. ورحلة مشروع الجزيرة طويلة وشاقة وشيقة مرت بعدة مراحل فهل آن الأوان لكي ننظر إلى مشروع الجزيرة في ضوء متغيرات العصر؟

مزرعة تجريبية

بدأ مشروع الجزيرة في عام 1911م، كمزرعة تجريبية لزراعة القطن في مساحة قدرها 250 فدان (بمنطقة طيبة وكركوج) شمال مدينة ود مدني).

بعد نجاح التجربة بدأت المساحة في الازدياد عاماً بعد آخر حتى بلغت 22 ألف فدان في عام 1924.

وفي العام الذي تلاه تم افتتاح خزان سنار وزادت المساحة المروية حتى بلغت حوالي المليون فدان في عام 1943م.

والفترة من 1958 وحتى 1962م تمت إضافة أرض زراعية بمساحة مليون فدان أخرى عرفت باسم امتداد المناقل، لتصبح المساحة الكلية للمشروع م 2,2 مليون فدان

أهداف المشروع

– زراعة محاصيل الصادر، كالقطن وزهرة الشمس.

– تحويل المنطقة من الزراعة التقليدية إلى الحديثة.

– رفع المستوى المعيشي والخدمي باستيعاب 15 ألف مزارع، وتوفير السكن والخدمات الصحية والتعليمية لهم.

– تحقيق التكامل الزراعي بإدخال الحيوان في الدورة الزراعية،

– التوسع في زراعة الخضر والفاكهة للاستهلاك المحلي والتصدير.

– استغلال حصة السودان من مياه النيل

مراحل التأسيس

تأسس المشروع في عدة مراحل:

المرحلة الأولى إبّان فترة الحكم الثنائي (1925 ـ 1955).

كان المشروع في هذه المرحلة يدار من قبل الشركة الزراعية الهندسية، التي ركزت نشاطها الزراعي على زراعة محصول القطن كهدف إستراتيجي. وشهدت هذه المرحلة ازدياد الوعي السياسي لدى المزارعين بالمشروع وبداية مقاومتهم للسياسة الزراعية التي تبنتها الإدارة الاستعمارية، مما أدى إلى إضرابهم الأول عام 1941م، والثاني عام 1942م، في وقت كان العالم فيه يعيش آخر أيام الحرب العالمية الثانية. وتضامن مزارعو الجزيرة مع عمال السودان مطالبين بحق تقرير المصير للسودان والاستقلال.

وفي عام 1950م، تم تأميم مشروع الجزيرة وسودنته، وتزامن ذلك مع الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى، حيث تدنت إنتاجية القطن فيه وانخفضت بالتالي دخول المزارعين الأمر الذي أدى إلى هجرة أعداد كبيرة منهم من المشروع إلى مناطق أخرى في السودان بحثاً عن الرزق. وبعد زوال الأزمة الاقتصادية العالمية استعاد المشروع عافيته.

وشهدت المرحلة الثانية (1955 ـ 1970) التوسع الأفقي للمشروع، وتشكيل مجلس إدارة مشروع الجزيرة، وأسست مصلحة الإنشاءات والتعمير، للإشراف على الأعمال الفنية المتعلقة بامتداد المناقل. كما تم تشييد سد الروصيرص. وقد ساهمت شخصيات سودانية في تخطيط مساحات زراعية جديدة بتوسع أفقي شمل (4410,5) قطعة أرض حيازة (28945) مزارعا.

من أهم التطورات في المرحلة الثالثة (1970 ـ 1993)، خطة التوسع والتنوع وبرنامج تعمير المشروع وتحديثه، خاصة بعد الاستمرار في التوسع الأ فقي، يدأ التفكير في الزيادة الرأسية بإدخال محاصيل جديدة وتقليل مساحة الأرض البور. وكانت دواعى تطبيق سياسات التكثيف والتوسع في المشروع هي التخلي عن الاعتماد على زراعة المحصول الواحد لما لها من مخاطر مثل الآفات والأمراض وتقلبات الأسعار.

إدارة المشروع

عندما تقرر تأميم المشروع في العام 1950 انتقلت إدارة مشروع الجزيرة إلى مجلس إدارة المشروع الجديد برئاسة المحافظ الإنجليزي للمشروع المستر جنيسكل الذي ظل في خدمة المشروع في الفترة من عام 1923 وحتى 1952 م قبل أن تتم سودنة وظيفة المحافظ. وكان أول محافظ سودانى هو السيد مكي عباس الذي تولى الوظيفة من عام 1955 – 1958 م واستمرت الإدارة الجديدة في سودنة الوظائف عاماً بعد عام . وبحلول 1956 م، اكتملت سودنة جميع الوظائف.

تتكون إدارة المشروع حالياً من مجلس إدارة يرأسه وزير الزراعة الإتحادي و15 عضواُ منهم مدير عام المشروع ووكيل وزارة الزراعة الإتحادية وممثل لوزارة المالية ونائب محافظ بنك السودان المركزي وممثل لكل من ولاية الجزيرة وشركة الأقطان السودانية وهيئة البحوث الزراعية إلى جانب ممثل للعمال والموظفين بالمشروع وستة ممثلين آخرين للمزارعين.

يتولى المدير العام إدارة العمل التنفيذي في المشروع بمساعدة أربع هيئات إدارية هي:

الإدارة الزراعية

الإدارة الهندسية

الإدارة المالية

إدارة الشؤون الإدارية

ويتبع لكل هيئة من الهيئآت الإدارية الأربع عدد من الوحدات المتخصصة.

وتعتبر الإدارة الزراعية أكبر الإدارات حيث تتولى إدارة العمليات الإنتاجية في المشروع وتنفسم إلى 18 قسم ميداني ولكل قسم لجنة إدارية يتبع لها عدد من وحدات أصغر تعرف بالتفاتيش (المفرد تفتيش) يبلغ عددها نحو 113 تفتيش. ويضم التفتيش كل تجهيزات ووسائط العمل من مساكن للعاملين ومكاتب ومخازن وورش بالإضافة إلى محالج القطن في مارنجان والحصاحيصا والباقير. كما يشمل التفتيش شبكة النقل الداخلي للإنتاج المتمثلة في خطوط السكة الحديدية الخفيفة التابعة للمشروع. وتوجد محطة أبحاث زراعية في مدينة ود مدني مهمتها دراسة تحسين البذور وغيرها من الأبحاث ذات الصلة بإنتاج القطن.

مشاكل المشروع

نظام تشغيل المشروع نظام غير معقد ويعود إلى عشرينيات القرن الماضي ونسبة لجودة نوعية الموارد الطبيعية من مياه وتربة فإن المشروع قد استمر يعمل بشكل جيد لفترة طويلة. وقد بدأت المشاكل الحقيقية التي واجهته في سبعينيات القرن الماضي وتفاقمت مع مرور الزمن حتى غدت تشكل تهديداً خطيراً لاستمراره بشكله الحالي.

من أهم المشاكل نقص الموارد والاعتمادات المالية اللازمة لأعمال صيانة وخصخصة المشروع وبيع ممتلكاته واستبدال الآلات والبنيات القديمة خاصة نظام الاتصالات داخل وحدات المشروع الذي يعتبر ضرورياً في إدارة عمليات الريّ وتعذر إزالة الطمي والحشائش وصيانة شبكات المجاري والقنوات وأنظمة النقل والتخزين.

دراسة علمية

بعد الخلفية المطولة عند نشأة مشروع الجزيرة ومراحله ندلف إلى استعراض لدراسة علمية رصينة تقدم حلولا للعودة بمشروع الجزيرة للإسهام الفعال في الاقتصاد السوداني، قدمها البروفسور فتحي محمد خليفة في دراسته العلمية المستندة إلى تجربته في إدارة المشروع بين عامي 93 و1996

فقد نشرت دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر في العام 2020 هذه الدراسة في كتاب بعنوان (مشروع الجزيرة 1996 1999 تجربة في التفكير خارج الصندوق.

ويتنقل عبر 106 صفحة من القطع الصغير بين عناوين المختلفة وقد سبقتها شكر وإهداء ومقدمة وتمهيد.

وتبدو صفحات الكتاب في تبوبيها العام وكأن المؤلف يقسم الأنصبة الشرعية في ورثة مشروع الجزيرة بالشيوع بين إدارات المشروع ودوراته الزراعية حسب النصيب الذي يضمن انسياب العمل وضمان النجاح.

ولا غرو في هذه القسمة فمؤلف الكتاب خبر قصة الزراعة في السودان في قاعات الدراسة وعلى الأرض في أكثر من مشروع زراعي.

حصل مؤلف الكتاب البروفيسور فتحي محمد خليفة على بكالوريس الزراعة من جامعة الخرطوم في العام 1970. ونال شهادة الدكتوراه من جامعة ويلز في بريطانيا في العام 1975. ونال درجة الأستاذية (بروفيسور) من جامعة الجزيرة في العام 1990.

وعلى الصعيد المهني عمل في هيئة البحوث الزراعية وعمل أستاذا وعميدا ورئيسا في أكثر من جامعة. وفي العام 1996 تقلد منصب مدير عام مشروع الجزيرة وظل فيه حتى العام 1999 بعد أن تقدم باستقالته.

صفحات الكتاب

تغطي صفحات الكتاب تجربة ثلاثة مواسم إنتاج جاءت بعد قرار تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي ورفع الدعم الحكومي، وتخفيض قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار.

بدا المؤلف في تمهيد الكتاب مترددا في الكتابة لكثرة ما كتب عن المشروع حتى أصبح مشروع الجزيرة مادة تدرس في بعض دول الجوار فضلا عن مواد كثيرة جدا بثتها وسائل الإعلام.

تناول المؤلف برنامج العمل للفترة 96 ـ 1999 باستفاضة مستهدفا خفض تكلفة الإنتاج ورفع معدلاته.

في مجال خفض الإنفاق استهدف البرنامج استباط موارد مالية سريعة إسعافية تعوض النقص الناتج من توقف تمويل الحكومة.

في محور رفع الإنتاجية سعى إلى تحقيق هدفين:

الأول: بناء قدرات المزارعين عبر برنامج تدريبي شامل مستديم لإشراك المزارعين في إدارة عملية الإنتاج وتقليل الفاقد في عمليات الحصاد وما بعده.

الثاني: إدخال الحيوان في الدورة الزراعية، وإعادة توزيع العمل في الحقل بحيث لا يصبح ضاغطا في زمن معين.

ونفذ هذا البرنامج عبر إدارات المشروع الأربعة وشاركت فيه الوحدات التابعة لها.

رفع الإنتاجية

اهتمت الدراسة في مجال رفع الإنتاجية باستعراض دراسة قدمها مؤلف الكتاب في العام 2012 عن الإنتاج بمشروع الجزيرة من أول موسم زراعي في العام 1925 حتى موسم العام 2009 شملت تحديد مساحات القطن المزروعة سنويا ومتوسط الإنتاجية للفدان، أبانت تلك الدراسة بوضوح ثبات متوسط الإنتاجية حول 4 قناطير للفدان. ويشير متوسط الإنتاج الضعيف هذا إلى الحاجة إلى طريقة تحفيز أولية لزيادة الإنتاج قبل البحث عن بديل آخر.

تدريب المزارعين

في سياق اهتمام الدراسة برفع الإنتاجية اهتمت بتدريب المزارعين على تقانات الإنتاج نظريا وعمليا من خلال إنشاء مدارس تدريب المزارعين الحقلية، بحيث يتمكن المزارع من تطبيق التقانات بنفسه لمضاعفة الإنتاج كما ونوعا وتحفيزا لعودة المزراعين للحقل.

وتم إعداد كتيب يحوي كل المعلومات الفلاحية لمحصول القطن وتدرس نظريا وعمليا في الحقل. وبلغ عدد المزارعين الذين انتظموا في التدريب 15 ألف مزراع و المدارس 489 مدرسة.

وتبقى الإشارة

إلى أن مشروع الجزيرة مشروع عظيم لا يوجد له مثيل في العالم جدير بالمحافظة عليه للتاريخ وللأجيال المتعاقية، ويجب العمل بكل الوسائل على استمراريته وتطوير بنياته، بما يمكنه من تطوير أدائه بالعلم والتقنية المتجددة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى