ثقافية

الذاكرة السودانية: هل دفنت أسرار من السودان في أنقاض عمارة مصر الجديدة ؟

محمد الشيخ حسين

 

عجيب أمر  فترة حكم الرئيس الراحل جعفر محمد نميري في السودان (25 مايو 1969 – 6 أبريل 1985).

، فما جاء عصر إلا وهناك معجبون به مغالون في إعجابهم له، وقادحون مغالون في قدحهم.

ولعل ملاحظتنا الأولى في تتبع أثر الفترة المايوية، أن نميري لم يكن مفكرا صاحب نظرية ولا داعية سياسيا يمكن أن تلتقط أفكاره من خلال كتاباته ودعاويه، ولكن كان (رجل دولة) عملي المنزع يهتم بالقضايا التنفيذية ويعبر عن نفسه من خلال المواقف العملية والمسائل الجزئية. ونميري في الغالب يتخذ موقفه ضمن الملابسات الواقعية التي تحيط به، ويستجيب في هذه المواقف للسياق العام للأحداث والظروف. ويمكن تتبع مواقفه من خلال السياق العام والاستدلال على نسيجه الفكري ومنزعنا النظري والمصادر التي شكلته.

 

والملاحظة الثانية أن تتبعنا لهذه الفترة يقودنا إلى اشكالات الزمن التاريخي في الكتابة، إذ أن العصر المايوي كان في أحايين عديدة من النوع الذي لا يفصح مظهره عن كامل جوهره ومغزاه وحجمه، إلا أن تتبع أثر مايو ربما  يكون تطبيقا لتعريف مارك بلوخ للتاريخ بأنه (علم البشر في الزمن وليس علم البحث في الماضي). ومع ذلك فإن الكتابة عن هذه الأيام الطويلة المتقلبة تؤدي بنا إلى اختلاط الأزمنة التي تجعل الذاكرة حاضرة ومنتعشة في فترات وغائبة أو مغيبة في فترات أخرى.

 

الملاحظة الثالثة أن الكتابة عن فترة مايو تفتح المجال واسعا لقضايا كثيرة، نلتقط منها بعض الشخصيات الغامضة في هذه الفترة.

من بين هذه الشخصيات الغامضة الأستاذ محمد محجوب سليمان مسؤول الطب النفسي في سجون السودان ثم الضابط في القوات المسلحة وأخيرا السكرتير الصحافي لرئيس الجمهورية لسنين عددا انتهت بركوبه أخر طائرة غادرت الخرطوم مساء الجمعة الموافق الخامس من أبريل 1985م. يذكر أن محمد محجوب سليمان عين وزيراً للإعلام في السودان و غادر المنصب بعد 48 ساعة من تعيينه.

وقبل أن نتناول قصة محمد محجوب سليمان الذي قضى نحبه في حادث انهيار عمارة في مصر الجديدة في العام 1995م. يستحسن أن نستطرد في الظروف التي قادت إلى ظهور نجمه في سموات السياسة والصحافة السودانية في الحقبة المايوية.

مؤلفات نميري

إن الكتب التي يؤلفها الرؤساء ليست شيئاً جديداً، ولكن اهتمامنا بها هو الجديد، فمنذ عهد ليس ببعيد كانت روائح العصر تقول إن الكتب النافعة هي التي يؤلفها الرؤساء في عز مجدهم قد تتصدر قوائم أوسع الكتب انتشارا، وقد تقرأ في أغلب الأحيان على أنها أعمال جادة ومبتكرة. المهم هنا أن القارئ لكتب الرئيس الراحل جعفر نميري يرسخ في ذهنه أن المرحوم محمد محجوب سليمان هو المؤلف الحقيقي لكل الكتب المنسوبة إلى جعفر نميري؟

غير أن الدكتور إسماعيل الحاج موسى يتحفظ على هذه الإشارة، وقد قال لي: لا أعرف ما المقصود بالمؤلف فالأفكار التي احتوتها هذه الكتب هي أفكار جعفر نميري، لكن الصياغة دون شك أعدها محمد محجوب سليمان.

وأضاف: فيما يتعلق بالكتب التي أصدرها جعفر نميري فهي جميعها من أفكاره ونظرا لأن رئيس الجمهورية ليس لديه الوقت الكافي لتدوين هذه الأفكار في الكتب، فقد كان يطرح أفكاره على محمد محجوب سليمان الذي يقوم بالصياغة. والعودة إلى الإشارة فإن (كل الكتب التي ألفها جعفر نميري كانت من أفكاره ودور محمد محجوب سليمان لم يتخط مجرد الصياغة والتنسيق لهذه الأفكار. وأسلوب محمد محجوب سليمان في الصياغة واضح جدا. ولا يحتاج الأمر لاجتهاد لكي نعرف من الذي قام بالصياغة).

وتابع: أكرر أن محمد محجوب سليمان لم يكن مؤلفا لكتب نميري فالأفكار كانت لنميري ومحمد محجوب قام بالصياغة فقط.

يطرح تفسير الدكتور إسماعيل الحاج موسى للأمر، سؤالا فحواه هل تعتقد أن نميري كانت لديه القدرات الفكرية التي تجعله يؤلف كل هذه الكتب،؟

أجاب الدكتور إسماعيل: هذه الكتب ليس فيها ما يثير هذا السؤال فكتاب النهج الإسلامي لماذا؟ يتناول المجتمع السوداني من جهة كونه مجتمعا متدينا ينبغي أن يوجه الإسلام كل أنشطته.

ويلتفت إلى جانب آخر من المسألة ينفي فيه أن انهماك محمد محجوب سليمان في صياغة كتب نميري قد أضرته على المستوى الشخصي ككاتب أو صحفي مرموق في البلد، لأن محمد محجوب سليمان لم يكن لديه طموح أو رغبة في أن يكون كاتبا مرموقا. محمد محجوب كان كل همه أن يكون في ظل الرئيس نميري.

 

نوبي محسي

ينتمي محمد محجوب سليمان إلى أسرة نوبية محسية تنحدر من جزيرة أشو. وولد ونشأ في حي الظاهر بالقاهرة، ودرس كل مراحله التعليمية في القاهرة. ونال بكالوريس علم نفس من جامعة عين شمس. اعتنق في شبابه الماركسية وعمل في الخلايا السرية  للتنظيم الشيوعي، الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، بعد أن توحدت مع التنظيم الآخر أسكرا تحت المسمى الموجز حدتو.

 

و كشأن كل السودانيين الذين ولدوا وعاشوا في مصر، عاد محمد محجوب للعمل في السودان في مطلع الستينيات حاملا معه شهادته الجامعية في علم النفس، والتي كانت تعتبر تخصصا نادرا في تلك الأيام، وأقام عند أول حضوره للسودان فى منزل أحد اقربائه بمنطقة جبل الأولياء، ثم التحق بمصلحة السجون في وظيفة اخصائي اجتماعي، وكان مسؤلا لفترة طويلة عن إصلاحيات الاحداث بالخرطوم.

 

التوجيه المعنوي

بعد وصول نظام مايو للسلطة، التحق محمد محجوب، بمساعدة من زوج شقيقته اللواء محمد عثمان هاشم رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، ضابطاً بفرع التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة.

 

وفي أحداث انقلاب الرائد هاشم العطا عام 1971 كان محمد محجوب، برتبة رائد، مسئولا عن تحرير صحيفة (القوات المسلحة)، وقادته مسئوليته عن ما نشرته الصحيفة خلال أيام الانقلاب الثلاثة الى محنة قاسية حيث تم اعتقاله واستجوابه، ولكنه تمكن من عبور المحنة وتجاوزها بسلام.

الثقافة العميقة

وحسب معاصريه عرف عن محمد محجوب الثقافة العميقة وكثرة الاطلاع، كما عرف عنه إنشاء وتأليف الكثير من الأوراق ذات القيمة النوعية في مضامير الأدب والفكر، لكن بروز تلك الصفات لم تبرز، لزهد محمد محجوب الشديد في النشر  والأضواء. وهناك إفادة أنه قام في أواخر الستينيات، ولفترة قصيرة، بإعداد وتقديم برنامج تلفزيوني باسم (الصدى والرنين)، برزت قدراته المتميزة في مجال التحليل النفسي.

الكاتب الشبح

يعتبر الأستاذ الجامعي والكاتب الصحفي المعروف الأستاذ مصطفى عبد العزيز البطل الذي عمل ردحا من الزمن في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، أن محمد محجوب هو الكاتب الشبح (Ghost writer) الذى كتب بأسلوبه الباذخ جميع المؤلفات المنسوبة للرئيس جعفر نميري ابتداء من الكتاب الشهير (النهج الإسلامي لماذا؟) وصولا إلى كتاب (السادات: المواقف والمبادئ). ومعلوم أن الكُتّاب الأشباح هم من تولوا صياغة الكتب التي زعم العديد من الرؤساء العرب تأليفها، باستثناء الرئيس صدام حسين، فقد كتب عدداً من الروايات بنفسه، وأشهرها رواية “زبيبة والملك”، و”اخرج منها أيها الملعون).

 

كان محمد محجوب ضمن ركاب آخر طائرة غادرت مطار الخرطوم في الخامس من أبريل 1985 قبل إغلاقه إثر استيلاء الفريق  عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب على السلطة معلنا نهاية النظام المايوي.  وهكذا عاد محمد محجوب إلى وطنه الثاني مصر، لكنه هذه المرة أصبح في القاهرة لاجئا سياسيا يعيش بجواز سفر سوداني لا يتم تجديده، وليس له جواز سفر بديل يتيح له السفر والتحرك.

 

هيكل السودان

حسب شهادة الأستاذ الصحفي الكبير فؤاد مطر، فإن هذا الوضع أفاد محمد محجوب حيث أنه عكف على كتابة مذكراته وتجربة العمل إلى جانب نميري في زمن عاش فيه السودان أخطر المراحل  في حياته بدءا من ثورة 25 مايو 1969 التي أعادت بعض الحيوية إلى ثورة 23 يوليو 1952 وفق ما كان يعتقد محمد محجوب.

 

دون محمد محجوب كل خفايا مايو ودقائقها منذ ميلادها وحتى إعلان وفاتها من موقع الشاهد القريب الذي ربطته بالرئيس نميري علاقة قوية امتدت لسنين طويلة جعلت الأستاذ فؤاد مطر يطلق عليه لقب (هيكل السودان).

 

وفي الوقت الذي كان الأستاذ فؤاد مطر  ينتظر نسخة من مذكرات محمد محجوب لكتابة مقدمة لها، يأتي نبأ انهيار عمارة مصر الجديدة ووفاة محمد محجوب، إثر اختلاط البشر بالأوراق تحت الأنقاض، وهكذا ضاعت أهم المذكرات عن التاريخ السياسي السوداني في الحقبة المايوية.

 

شخصية الرجل

من المهم جدا أن نشير هنا إلى شهادة  تتصل بطبيعة شخصية الرجل، قدمها لي الدكتور إسماعيل الحاج موسى فى وصف المرحوم محمد محجوب سليمان: (لا يحب الأضواء، ويعانى من نمط التوجس الإعلامي الذى يجعل المسؤول يتوجس من الإعلام فيتهرب من أجهزته ويبتعد عن أضوائه، وذلك لعدم المقدرة أو عدم الرغبة، أو الاثنين معا، أو لأنه عندما يكون بعيدا عن الأضواء يكون أكثر قدرة على تحريك الأمور). ثم أضاف (الغموض الذى كان يحيط بالمرحوم يعود إلى أنه رجل بلا علاقات اجتماعية. والغموض ناتج عن افتقاره للصداقات والعلاقات الاجتماعية).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى