السودان في إشبيلية: شرعية راسخة وشراكات تتجدد

مهند عوض محمود
لم تأتِ مشاركة السودان في المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية (إشبيلية – إسبانيا) من باب الحضور البروتوكولي فقط، بل تحمل في طياتها دلالات سياسية واقتصادية بالغة الأهمية في هذا المنعطف التاريخي الذي تمر به البلاد. هذا المؤتمر الذي عُقد بمبادرة من الأمم المتحدة وباستضافة إسبانية رفيعة المستوى يُعد منصة عالمية لتحقيق التضامن والتعاون الدولي في مجال تمويل التنمية المستدامة، ويؤكد مجدداً أن السودان لا يزال جزءاً أصيلاً من المشهد الدولي رغم الحرب المدمرة التي أشعلتها المليشيا المتمردة منذ إبريل 2023.
إن الدعوة المشتركة التي قُدمت للفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة من رئيس وزراء إسبانيا ومن الأمين العام للأمم المتحدة معاً، لم تأتِ من فراغ، بل تعكس بوضوح المكانة المستحقة للسودان كدولة عضو فاعل في منظومة الأمم المتحدة وكشعب يُنظر إليه كإحدى شعوب الجنوب العالمي الذين تُعطى قضاياهم أولوية في أجندات التنمية المستدامة. هذه الدعوة المزدوجة هي بحد ذاتها رسالة بأن السودان، بحكومته الشرعية ومؤسساته الانتقالية، لا يزال يحظى بالاعتراف والتقدير، مهما حاولت بعض الأصوات المشككة بث شرعية بديلة أو الترويج لكيانات موازية لا تملك أي سند قانوني ولا قبول شعبي.
رغم الظروف الاستثنائية التي يعيشها السودان من حرب عدوانية دمرت بنيته التحتية وأرهقت اقتصاده وشردت الملايين من أبنائه، فإن استجابة القيادة السودانية للدعوة والمشاركة الفاعلة بوفد رفيع المستوى تؤكد على إصرار الدولة السودانية على الانفتاح وعدم الانعزال، وإيمانها بأن الحلول الحقيقية لأزمات البلاد الكبرى لا يمكن أن تُصنع بعيداً عن التعاون الإقليمي والدولي والتكامل مع شركاء التنمية في العالم.
وما يزيد من أهمية هذه المشاركة أن المؤتمر استقطب مشاركات واسعة من رؤساء دول وحكومات ووزراء مالية وخبراء من منظمات إقليمية ودولية ومؤسسات تمويل كبرى، إلى جانب ممثلي القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني. هذا التعدد في التمثيل يفتح أمام السودان فرصة ذهبية لإعادة ترتيب علاقاته وبناء شراكات جديدة، سواء من خلال اللقاءات الرسمية في الجلسات العامة أو عبر الاجتماعات الجانبية التي تُعد ساحة خصبة لمناقشة قضايا تخفيف أعباء الديون وإعادة تفعيل برامج الدعم التنموي وجذب استثمارات لإعادة الإعمار. كما أنها فرصة لصياغة مواقف مشتركة مع دول الجنوب وتوحيد الصوت في ملفات إصلاح النظام المالي العالمي بما يحقق العدالة للدول النامية في الوصول للموارد واتخاذ القرار.
وتأتي هذه المشاركة أيضاً لتقطع الطريق أمام الأقلام التي ما تزال تكتب عن شرعية الحكومة، وتحسم الجدل بأن من أراد مخاطبة الدولة السودانية فعليه مخاطبتها عبر حكومتها الشرعية ومؤسساتها الرسمية لا عبر كيانات معارضة مثل مجموعة صمود الجناح السياسي للدعم السريع التي لا تعدو كونها واجهة لتحقيق أجندات معلومة ولن تنجح في أن تكون بديلاً لدولة لها جذورها وتضحياتها وشرعيتها المستمدة من إرادة شعبها.
لقد عكس خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان في المؤتمر إدراكاً عميقاً لطبيعة التحديات التي يواجهها السودان والمنطقة، وإصراراً على أن بناء السودان واستكمال مؤسساته المدنية وتعزيز مسار الانتقال الديمقراطي لن يتوقف رغم الحرب، مع توجيه رسالة أمل بأن الشعب السوداني لا يزال متمسكاً بخيارات السلام والتنمية مهما طال أمد الصراع. كما أكد الخطاب على ضرورة إصلاح النظام المالي العالمي ليكون أكثر عدلاً وعدداً وشمولاً في تمثيل مصالح دول الجنوب، وليمنحها صوتاً فاعلاً في صنع القرار، فضلاً عن الدعوة إلى شراكة قائمة على الاحترام المتبادل والسيادة الوطنية والمصلحة المشتركة، بعيداً عن النظرة الاستعلائية أو المشروطية.
إن مشاركة السودان اليوم في هذا المحفل الدولي الكبير هي دليل على أن الدولة السودانية حاضرة رغم المحن، وصامدة رغم التآمر، ومصممة على إعادة إعمار ما دمرته الحرب عبر بوابة التعاون والشراكات الاستراتيجية. وهي رسالة إلى كل من لا يزال يراهن على إضعاف مؤسسات الدولة أن السودان باقٍ بكيانه، وشرعيته، ووحدة إرادة شعبه.
ختاماً، إن كل لقاء وكل منصة دولية يحضرها السودان تعيد له جزءاً من مكانته، وتمنح قضاياه صوتاً في دوائر القرار، وتبعث برسالة أمل لشعبه بأن المستقبل يُصنع بالتضحيات والصمود والانفتاح على العالم.