الشرطة السودانية: بين الحزم والإنسانية في مرحلة ما بعد الحرب

عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
عندما استعادت الشرطة السودانية مقر وزارة الداخلية ورئاسة الشرطة، لم يكن ذلك مجرد انتصار أمني، بل كان استعادة للروح، للهوية، وللأمل في مستقبل أكثر أمانًا. بعد شهور من الفوضى، سوف تعود الشرطة إلى قلب العاصمة، ومعها تطلعات الناس بأن يصبح الأمن واقعًا ملموسًا، وليس مجرد حلم مؤجل. لكن هذه العودة لا تعني ببساطة استئناف العمل كما كان، بل تفرض علينا جميعًا، شرطةً ومجتمعًا، إعادة التفكير في شكل العلاقة بين الأمن والناس، بين الحزم والإنسانية.
لطالما كانت الشرطة في أي مجتمع مرآة لحالة الدولة، فهي ليست مجرد قوة تنفيذية، بل درع المجتمع وسنده. وكما قال المدير الأسبق للشرطة البريطانية بارنت:
“ليس كل استخدام للعنف من قِبل الشرطة ضد المجرمين يُعد عملًا غير إنساني، إذ توجد حالات تستدعي العنف الرادع، وفي تحقيقه تتجلى أسمى صور الإنسانية.”
في بلد خرج لتوه من صراع عنيف، لا يمكن أن نغفل هذه الحقيقة. الدولة التي لا تملك شرطة قوية وعادلة لن تستطيع حماية شعبها، لكن القوة التي تفقد بوصلتها الأخلاقية تتحول إلى تهديد بدلاً من حماية. لذلك، فإن التوازن بين الحزم والعدل ليس ترفًا، بل هو ما يصنع شرطة قادرة على أداء دورها بفعالية، تحظى باحترام الناس وثقتهم.
القوة وحدها لا تصنع شرطة ناجحة، تمامًا كما أن اللين الزائد لا يبني مؤسسة أمنية قادرة على فرض القانون. وكما قال الفريق أول شرطة د. عباس أبو شامة، وزير الداخلية الأسبق:
“إن أحد المعايير العالمية لقياس أداء الشرطة ليس فقط في تأدية واجبها المهني التقليدي، ولكن أيضًا في التوسع في العلاقات الإنسانية مع المواطنين. وهذا ما يقربها أكثر إليهم، حيث تستمد الشرطة شرعيتها من رضا المواطن عن عملها، وليس فقط من القوانين واللوائح.”
إعادة بناء الثقة بين الشرطة والمجتمع تبدأ من هنا: من الفهم المشترك بأن الشرطة ليست جهة منفصلة عن الشعب، بل هي جزء منه، تعكس آماله ومخاوفه وتطلعاته. والشرطة القوية ليست تلك التي تخيف الناس، بل التي تجعلهم يشعرون بالأمان.
ولعل التساؤل الذي طرحته د. بسمة عبد العزيز في كتابها إغراء السلطة المطلقة يلخص جوهر التحدي الذي نواجهه:
“كيف يمكن الحفاظ على الدور الحيوي الذي يقوم به جهاز الشرطة في تأمين المجتمع ومنع الجرائم ومطاردة الجناة، مع تخليصه مما يُنسب إليه من عنف يفوق الضرورة والحاجة؟”
هذه ليست معادلة مستحيلة، بل هي المبدأ الذي قامت عليه أفضل المؤسسات الشرطية حول العالم. التوازن بين القوة والإنسانية ليس تنازلًا، بل هو مفتاح النجاح في أي مرحلة انتقالية. ولكي يتحقق هذا النموذج، لا بد من توفير بيئة عمل داعمة لعناصر الشرطة، تضمن لهم حقوقهم المهنية والمعيشية، وتوفر لهم التدريب اللازم لفهم طبيعة عملهم في مجتمع ينهض من بين الركام.
ما نحتاجه اليوم هو شرطة تجعل المواطن يشعر بأنها إلى جانبه، لا فوقه. شرطة تحميه، ولا ترهبه. شرطة تدرك أن الشرعية لا تأتي فقط من النصوص القانونية، بل من ثقة الناس. فالشرطة ليست مجرد مؤسسة، بل فكرة يعيش بها المواطن، إما أن تمنحه الطمأنينة أو تجعله يشعر بالغربة في وطنه.
التحدي أمامنا كبير، لكنه ليس مستحيلًا. والشرطة السودانية اليوم أمام فرصة تاريخية لتعيد بناء العلاقة مع المجتمع، لتكون كما يريدها شعبها: عينًا ساهرة تحرس الأمن، ويدًا أمينة تمتد بالعون، تجمع بين الحزم والإنسانية، لتعيد بناء الثقة وتصنع مستقبلًا أكثر أمنًا واستقرارًا.