الفراغ العريض

عبد القادر دقاش
هناك كتب ترتفع بك إلى سماء المعرفة، وكتب أخرى تهبط بك إلى الحضيض. كتب تغذيك إلى أبد الدهر، وكتب تمتصك حتى لا تبقي فيك دماَ، خاصة إذا كنت ضعيف المناعة. لكن كيف يمكننا أن نعرف الكتب الضارة والكتب النافعة، هل يمكننا معرفة ذلك من القراء أو الكتاب أنفسهم؟
ربما نعرف ذلك من بعض القراء والكتاب، ولكن ليس هناك قارئاَ أو كاتباَ محايداَ.. فالذين يمنعون قراءة كتب ومذاهب بعينها هم بالضرورة أعداء أولئك الكتاب ومناوئين لأصحاب تلك المذاهب.. ومن العجيب أن كثيراُ مما زرع في عقولنا من تصورات ومذاهب بعينها، زرعه أولئك الذين يخالفون هؤلاء أو أولئك الرأي.. إذن كيف يمكننا أن نختار الكتب النافعة من بين الكتب الضارة.. لا شيء يعصمنا من سوء الاختيار، سوى القراءة الناقدة الفاحصة والمحايدة.. أن تقرأ كتاباَ دون أن يكون هناك حكماً مسبقاَ فيه.. فمن يقرأ ليبحث عن ما سمعه أو عرفه من كتاب أو من كاتب، لن يفلح في قراءته أبداَ.. ومن يحكم على كتاب لأنه يحب صاحب الكتاب فلن تستقيم ملكة الحكم لديه.
معاوية نور.. المثقف السوداني الألمع.. كان قارئاَ ناقداَ.. وكتب معظم مقالاته في صحيفة السياسة المصرية، الصحيفة التي كان يكتب فيها كبار الأدباء المصريين، العقاد والمازني وطه حسين، وكان (نور) ناقداَ فذا.. توجه في نقده لكتاب كثيرين بحكم امتلاكه ثقافة واسعة مكنته من معرفة الكاتب الناقل من الكاتب المنشئ.. فقد كان بعض الكتاب في ذلك الزمان ينقلون كتابات عن الإنجليزية أو الفرنسية ثم ينسبون ما كتب لأنفسهم أشار معاوية في نقده لذلك.. وله كتابان من أروع ما كتب في ذلك الزمان: هما قصص وخواطر، ومقالات في الأدب والسياسة. أعادت طباعتهما دار البلد بذات الاسم. ونشرت مجلة الدوحة واحداَ منهما، تحت عنوان “بين ثقافتين” مقالات وقصص، فيه مقالات متنوعة وقصص عالجها معاوية نور: (في الخرطوم – خواطر وذكريات محزونة – أم درمان مدينة السراب والحنين – ابن عمه – إيمان – المكان – الموت والقمر) في وقت كان قليل من السودانيين يتناولون الجانب القصصي لتصوير الحياة في السودان ومشكلاته، قبل أن يتربع الطيب على عرش القصة السودانية ويتعب من يأتي بعده.
لكن تظل ملكة الدار محمد عبد الله، هي أعجوبة ذلك الزمان، فهي أول من كتب قصة كاملة “الفراغ العريض” وأول من كتب في الصحافة في وقت كانت فيه المرأة رهينة المحبسين.. تعلمت (ملكة الدار) القراءة والكتابة والقرآن والمتون في خلاوي الشيخ “إسماعيل الولي” بمدينة الأبيض.. و إسماعيل الولي.. أول من قشع غشاوة الجهل وسحابة الأمية عن الفتيات بعد أن استقرت الأعاريب في بلاد النوبة والدينكا والشلك والفونج والعنج والنيليين قبل ظهور (المهدية).. ومن ثم خطى (الشيخ بابكر بدري) على خطاه بعد أفول (المهدية).. هناك تعلمت ملكة الدار في خلاوى (أحفاد الولي).. وتفتحت آفاقها.. ومن ثم ذهبت إلى مدارس الخواجات بثقافة لا تزعزعها الثقافة الوافدة .. الفراغ العريض قصة أو رواية أو نقد اجتماعي يمكنك أن تطلق عليها ما شئت لكنها (تظل) أول كتاب ناضج تكتبه امرأة في السودان في قالب أدبي رائع.