رأي

القيادة الغائبة في السودان: القائد المنظومي أم التقليدي؟ (1-4)

د. إسماعيل ساتي

لعل واحدة من عقباتنا الكؤود، منذ الاستقلال، تكمن في غياب القائد الفذ الذي يتصدر المشهد ويقوم بإدارة أزماتنا بكفاءة وقدرة وأمانة. وهذا الأمر غير مرتبط بمنصب زعماء البلاد وحسب، بل يشمل كل قائد أو مدير يحتل منصباً يؤثر على حياتنا الشخصية أو المهنية أو الاجتماعية.

وقد كتبنا سابقاً عن بعض المعايير والضوابط التي يجب أن توضع بعناية قبل أن يقوم أصحاب الشأن، أياً مَن كانوا، باختيار القائد الذي يصلح لأداء الدور المنوط به، كما ظللنا نطالب من المسؤولين بمجلس السيادة أن يحرصوا على تطبيق هذه المعايير عند ترشيح وتكليف رئيس للوزراء أو أعضاء حكومته وأن يتجنبوا التعيين الجزافي الذي لا يقود إلا إلى نتيجة جزافية!

ولعل بعضكم قد تابع ما كتبناه بالتفصيل على الفيسبوك عن الفكر المنظومي وأهمية أن يتبناه ويتخذه مذهباً كل صاحب قرار في هذا الشأن وفي شؤون أخرى عامة.
ما أقصده أننا نحتاج لقائد ذي بصيرة منظومية، وأسميه القائد المنظومي. فمن هو هذا القائد وما هي خصائصه ولماذا هو مهم لا سيما في المنعطف الذي تمر به بلادنا والتي تكاد أن تعصف بالوطن والمواطن؟

هذه أسئلة حرجة، ولكن قبل أن نجيب عليها، دعونا نتناول ببساطة وباختصار المقصود بالفكر المنظومي.
وقبل أن نبدأ، يجب علينا أن نفرق بين كلمات ثلاث يمكن أن يكون استخدامها غير المناسب سبباً في التباس الكثيرين؛ هذه الكلمات هي: (النظام) و (التنظيم) و (المنظومة). (فالنظام) يقصد به مجموعة من القواعد أو الإجراءات أو القوانين التي تُستخدم لتنظيم سلوك أو عمل ما؛ كالنظام السياسي والنظام المالي والنظام المدرسي. (والتنظيم) هو ترتيب الأفراد أو الأشياء بطريقة محددة لأداء عمل معين، ويُستخدم غالباً للإشارة إلى الكيانات الإدارية أو المؤسسات، ما يستدعي وضع الهيكلة وتوزيع الأدوار والمهام والصلاحيات والتنسيق فيما بينها؛ كالتنظيم الإداري والتنظيم العسكري وتنظيم ندوة. أما مصطلح (منظومة) فيقصد به مجموعة من العناصر والمكونات المختلفة التي تعمل معاً بشكل متكامل ومتسق لتحقيق هدف مشترك، وغالباً ما يكون بينها تفاعل وترابط بما يساعدها لتؤثر في غيرها من المناظيم الأخرى وتتأثر بها تبعاً لذلك، كالمنظومة التعليمية (من مناهج ومرافق ومعلمين وأنظمة) والمنظومة البيئية (من نبات وحيوان ومناخ وإنسان). والفكر المنظومي هو فكر منسوب إلى هذا المصطلح.
وقد أردت أن أعرّف هذه المصطلحات لمن لم يتابعنا سابقاً حتى نكون على بينة.

والآن دعونا نستعرض المقصود بالفكر المنظومي.
الفكر المنظومي مدرستان، المدرسة الحركية والمدرسة النقدية، وكلاهما يعتنق هذا الفكر ولكن من منظورين مختلفين، وهو منهج مفاهيمي.
والفكر المنظومي الحركي يهتم بحركة الحياة الديناميكية المتغيرة في كل لحظة، أما الفكر المنظومي النقدي فاهتمامه ينصب على تقييم أداء المنظومة قيد الدراسة وما يعتريها من خلل يحتاج لتقييمه قبل الشروع بمعالجته.
وكلا المدرستين هامتان، إلا أننا نركز اكثر على المدرسة التي تهتم بحركة الحياة وتفاعلاتها على المستويات المكانية والزمانية.

فمرة أخرى، ما هو المقصود بالمنظومة؟
نحن نعيش في عدد لا حصر له من المناظيم المتداخلة (حيوية .. بيئية .. طبيعية .. كونية .. صناعية.. فكرية .. إلخ). فعلى سبيل المثال، المناظيم الحيوية تتشكل من عدد هائل من الخلايا (وكل خلية هي منظومة في ذاتها) إلا أنها تتكتل معاً لتشكل عضواً حيوياً يوظف بدوره في منظومة أخرى أكبر. وكذلك ينطبق الأمر على باقي الأصناف من المناظيم. فالأسرة منظومة اجتماعية تتكون من مجموعة من الأفراد، وهي في نفس الوقت منظومة صغرى تشكل منظومة أكبر كالعائلة الممتدة، والعائلات تشكل الحي والأحياء تشكل القرية أو المدينة، والقرى جزء من الدولة والدولة جزء من العالم،،، وهكذا يمكن أن نرتقي لأعلى حتى نلامس حدود الكون، أو أن نهبط لأسفل حتى نصل إلى مناظيم في حجم النانو. وسوف نجد أن هذه المناظيم، دقها وجلها، يعمل بقواعد وضوابط دقيقة تحافظ بها على توازنها وحياتها وتحقق أهدافها. فإن حدث فيها عطب أو خلل، لنتج عن ذلك خطب أو إخفاق يعيق تحقيق أهدافها ويحتاج لمعالجة.

وللفكر المنظومي عدد من الخصائص نذكر منها في هذه العجالة خاصتين هامتين هما التفاعلية والترابطية. فلكي تؤدي منظومة ما دورها وتلبي غاياتها، يجب أن تحافظ على ما يربطها بباقي مناظيم المجموعة على كافة المستويات وتتفاعل معها. فعلى سبيل المثال، شمعة الاحتراق بماكينة السيارة هي في ذاتها منظومة ولكنها لا تؤدي لوحدها الدور المنوط بها خارج السيارة، بل يجب أن ترتبط بالمكونات المناظيمية الأخرى المكملة لدورها، وهذا ما يُسمى بالترابطية، كما يجب أن تتفاعل مع المناظيم الأخرى بالسيارة من خلال معابر وموصلات مما يجعل شمعة الاحتراق تشتعل في وقت محدد فتشعل الوقود داخل المكبس. وهكذا تعمل السيارة التي هي منظومة بالمستوى الأعلى من شمعة الاحتراق. وبدون شمعة الاحتراق فالسيارة (التقليدية) لا تعمل ولو كانت رولزرويس، وبدون السيارة، فشمعة الاحتراق لا قيمة لها ولا تحقق رسالتها، فالواحد للكل، والكل للواحد.
وهذا المثال رغم بساطته، إلا أنه يعطينا فكرة جيدة عن عمل المناظيم في البيئة الصناعية. إلا أن هذا المثال إن أردنا أن نشبّه به، لا ينطبق على البيئة الإنسانية. ولتوضيح ذلك، إن توقفت هذه الشمعة عن العمل داخل سيارة بسبب عطب أصابها وأراد فني أن يصلح هذا العطب، فهو يخرجها من بيئتها (رأس الأسطوانة) ثم يفحصها لمعرفة كنه الخلل ثم يصلحها ثم يعيد تثبيتها برأس الأسطوانة مرة أخرى. هذا هو النهج التفتيتي (Reductionism) الذي يصلح للماكينات (الميكانيستية) لأن مناظيمها يمكن التنبؤ بأدئها بدقة 100%، ولا يصلح لبيئة إنسانية معقدة.
فالتفتيتية تعني تجزيء الأشياء إلى مكوناتها الأساسية (منهج التحليل) ثم دراستها بمعزل عن بيئتها الأصلية من حيث علاقات السبب والنتيجة، مما يؤدي إلى عزل المسبب عن السبب مكاناً وزماناً، ومن ثم البناء على ذلك وتعميمه.

والقائد التقليدي غالباً ما يحاول أن يعالج ما يعتري منظومته من خلل بفهم تفتيتي، فيقوم بعزل المنظومة عن بيئتها ليعالج (كظنه) ما أصابها من خلل ثم يعيدها لسياقها مرة أخرى، تماماً كمثال شمعة الاحتراق. إلا أنه غالباً ما تؤدي هذه المنهجية التفتيتية لعواقب وخيمة. وللأسف فإن المنهج التفتيتي ظل هو المنهج الشائع في معالجة قضايانا الكبرى، وحتى الصغرى. فكم قائد ممن نعرف يظل ينظر لمشكلة اعترت منظومته من زاوية ضيقة فردية ثم بحكم محدودية فهمه الفردي يختار لها حلاً متعجلاً مما يسبب في عودة المشكلة بشكل أكبر وأكثر فداحة !!

إن البيئات الإنسانية المعقدة كالبيئة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، تحتاج لإدراك قيادي من صنف خاص أسميه البصيرة المنظومية. فمناظيم هذه البيئات تعمل بقوانين أكثر تعقيداً مما يجعل التنبؤ بأدائها شبه مستحيل. إلا أننا بدون أن نسعى للبحث معاً والتعرف على ترابطية وتفاعلية هذه المناظيم فيما بينها دون عزلها عن بيئتها، لا يمكننا أن نضع أيدينا على الأعطاب التي تحدث لها وفيها، مما يجعلنا نعالج الخلل بعلاج غير مناسب أو غير صحيح؛ بل وأحياناً تكون عواقب العلاج الخاطئ أسوأ من العطب نفسه لو تركناه دون تدخل منا. لذلك يحتاج كل صاحب منصب أن يدرك بفهم كيفية تبني الفكر المنظومي وتطبيق أدواته، لكي يكون صاحب بصيرة منظومية.
هنا تكون الحلول أسوأ من المشكلات، وهو واحد من محاذير الفكر المنظومي التي ننادي بها. فالفكر المنظومي ينظر الى الكليات الموحدة للأشياء والغرض منه هو فهم الكيفية التي تتفاعل بها الأجزاء المكونة للمناظيم وتترابط. هذه التفاعلية والترابطية هي ما يحدد الأنماط التي تنشأ والآثار الناتجة عنها مما يستدعي بصيرة منظومية حركية لدراسة سلوك المنظومة عبر الزمن، قصيره ومتوسطه وطويله. فالمنظومة ليست ساكنة بل متحركة وليست ميتة بل حية ومتغيرة، مما يجعل اختيارنا لعلاج عطب ما في لحظة من الزمن غير مناسب لنفس المنظومة في لحظة زمنية أخرى. كمثال على ما أقول، سادت في خمسينات وستينات القرن الماضي استخدامات المادة الكيماوية المعروفة بالـ (DDT) كمبيد حشري تُرش به المحاصيل الزراعية، واستمر استخدام هذا المبيد حتى جاء من يطلع العالم على آثاره الجانبية الكارثية وتأثيره السلبي على التنوع الحيوي والبيئي، وهو ما جعل الدول تشرّع من القوانين في عام 1970 ما يمنع استخدامه. من هنا جاءت أهمية القانون المنظومي (مشاكل اليوم، حلول الأمس)، وهو قانون الفكر المنظومي الحركي (Fixes that Fail)، والذي سوف نبينه بتفصيل أكثر في حلقة لاحقة.

إن تبني القيادة لمنهجية الفكر المنظومي يساعد على تحرير مفاهيمهم من شوائب الفكر التفتيتي الذي تجعل أفقهم ضيقاً. لهذا ننادي بالقائد المنظومي.
إن من أكبر المعضلات التي مرت بها بلادنا منذ الاستقلال، ولا تزال، أن أصحاب الشأن والقرار وأهل الحل والعقد لا يتمتعون بالبصيرة المنظومية والدراية بالتعرف على تطبيقات أدوات التفكير المنظومي. وهو أمر كما سوف نرى في غاية الأهمية؛ بل إن الإخفاق في اختيار القوي الأمين صاحب البصيرة المنظومية سوف لن يخرج السودان من الحلقية الخبيثة التي ظل يعاني منها منذ الاستقلال ولا يزال.

ولكي يكون القائد المُرتَجى قائداً منظومياً، يجب أن يتمتع بخصائص محددة، فما هي هذه الخصائص وكيف تختلف عن خصائص القائد التقليدي؟
نتناول الإجابة على هذين السؤالين فيما سوف نطرحه لكم في الجزء الثاني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى