رأي

بعيدا عن “الجربندية” : أهمية مواصفات رئيس السلطة التنفيذية في الفترة الإنتقالية التأسيسية…

دكتور عبد الرحمن السلمابي 

 

“الجربندية” مصطلح سوداني شعبي شائع و يفيد الممارسة المهنية دون كامل المعرفة بالأسس العلمية عبر الدراسة المنهجية المقررة و التي من بينها أخلاقيات و أعراف و أسس و تقاليد المهنة نفسها .. و غالباً في حالة عدم التقييد بتلك الأخلاقيات تنزع الصفة المهنية و يمنع من الممارسة و يسحب الترخيص المهني … هكذا تحرس المهنة نقاباتها أو إتحاداتها المهنية خوفاً من التغول عليها و الإساءة لها و لهم كممارسين محترفين …

فالجربندي المهني الذي يمارسها لا يعرف الكثير عن الأسس العلمية او المعرفية المهمة لها و لا يتقيد بأخلاقياتها …

فمثلا من مآسي النزوح أن لدينا صديق تعطلت سيارته و أتى بأحد الميكانيكيين “الجربندية” فعبث بكامل الماكينة لاعتقاده أن العطل بها و صرف فيها من الوقت و الجهد و إضافة المال ما صرف و مع ذلك فشل في تدوير المحرك مرات و مرات … لحسن الحظ و بعد ركن السيارة لعدة أشهر حضر ميكانيكي مهني دارس لها و متدرب خارجياً و داخلياً على نوع تلك السيارة الكورية … و ببساطة أشار إلى أن إصلاح العطل يكمن في نظافة فلتر الوقود إن لم يتيسر تبديله فقام بإصلاحها و إصلاح و مراجعة ما فعله ذلك الجربندي … حمد الله فإنه لم يتمكن من تدويرها و تشغيلها حيث ذلك قد يؤدي إلى التكلف الكامل لها …

و لعل من أبسط أخلاقيات المهنة عدم الإدعاء بالمعرفة حيث ببساطة أن يكون الشخص صادقاً و يصرح بأنه ليس لديه معرفة بصيانة أنواع تلك السيارة لوفر كل الجهد و الوقت و المال …

نفس الأخلاقيات المهنية تجدها حاضرة مثلاً في ممارسة الطب حيث يقوم الطبيب المهني بتحويل المريض إلى طبيب آخر أكثر إختصاصاً معرفياً منه في نوع ذلك المرض … بل إن بعض الأطباء الإختصاصيين في نفس نوع المرض قد يشير إليك بأخذ رأي تانٍ أو رأي ثالث في حالة الإختلافات …

المهن العسكرية نفسها تخضع إلى دراسات علمية و تدريبات مكثفة و ممارسات مهنية شاملة لأخلاقياتها و إلا صارت ممارساتها مجرد “جربندية” …

فكل القادة العسكر في جيوش العالم درسوا العلوم العسكرية و اجتازوا دراسات عليا فيها … فلننظر ماذا فعلت بنا ممارسات القادة الجربندية من الذين لم يدرسوا العلوم العسكر و التشبع باخلاقياتها ؟؟؟

و لعل أبلغ مثال ما فعله بنا الفريق أول حميدتي و شقيقه الفريق عبدالرحيم و الثلة من عساكرهم الذين لا تنم ممارساتهم بأبسط أخلاق و شرف العسكرية من قتل العزل و ممارسة النهب و السرقة و غيرها …

لقد وردت ملاحظة قيمة من سعادة اللواء م الدكتور إسماعيل أبوشوك مفادها أن ممارسة السياسة مستقبلا خلال الفترة الإنتقالية التأسيسية يجب أن تتم فيها المزاوجة و التعاون اللصيق ما بين السلطة العلمية و السلطة السياسية إن أردنا لبلادنا مخرجا علميا إستراتيجيا مستداما …

و لعل حديثه مرتكز علمي ممتاز و لعلنا قد نضيف له بعض الأبعاد الأخرى بغرض التجويد العلمي و المعرفي خصوصا فيما يلي ممارسة السلطة السياسية أو السياسة نفسها…

و لعلنا قد نعلم جميعا أن السياسة نفسها اتخذت المنهجية العلمية لها سبيلا و صارت منذ زمن بعيد علوما تدرس و بها ما يزيد عن 35 مادة أساسية و فرعية و لم تعد ممارسة “جربندية” كما الشائع لدينا من مجرد البراعة الخطابية و “طق حنك” و وعود سندسية كاذبة و تحسين المظهر و الهندام … أي لم تكن أو تعد ممارسة للبيع و الشراء و السمسرة …

وقد يكون مشابها لها و متشابكا معها دراسات القانون و الإقتصاد و منسوبي مهنهما … و لعل هذا قد يكون بينا و واضحا في أسس اختيار منسوبي وزارة الخارجية التي تختص بالعلاقات الدولية كفرعية أساسية من فروع العلوم السياسية و تستوعب مهنيين أيضا من خريجي القانون و الإقتصاد و الآداب لغات أجنبية …

إذاً قد نخلص أن البؤر المهنية العلمية لممارسة السياسية الراشدة وفق الأسس العلمية قد تحصر الخيار في تلك الدراسات الإنسانية ،،، و إن لم يكن بصورة مباشرة و هو الأفضل فلربما بطريقة غير مباشرة عبر الإستعانة بهم في تقديم الإستشارات و النصح و الإستعانة بالمراكز البحثية الخاصة بالعلوم السياسية … و هكذا تكون الإدارة العلمية للسياسة في الدول المتقدمة و التي تعتمد على الإستفادة من العقل و الذكاء الجمعي و المعرفي لوضع إستراتيجياتها و رسم كافة سياساتها و مراجعة قراراتها … لذلك قد نجد في الولايات المتحدة الأمريكية مراكز بحثية إستراتيجية كثيرة تساعد في إتخاذ القرارات السياسية،،، و قد نجد في الإقتصاد يتم الإعتماد على رسم سياسته لأحد مراكز الجامعات العريقة… كما قد حظيت البروفسير كوندليزا رايس أستاذة العلوم السياسية بمنصب وزير الخارجية و هي من مبتدعي نظرية الفوضى الخلاقة … كما أن الكثير من الرؤساء الأمريكيين أمثال كنيدي و كلينتون و أوباما و آخرون من خريجي القانون …

وبما أن دولاً مثل أمريكا قد أرست تلك المبادئ العلمية لإدارة الدولة و رسخت فيها المؤسسة على ذلك الفهم و ليس كما في حالتنا ،،،

فقد يستوجب وضع ذلك كله في الإعتبار في الفترة التأسيسية الانتقالية القادمة و خصوصا عند اختيار رئيس للسلطة الإنتقالية القادمة … ولعله وفق ذلك فمن المستحسن أن يتم حصر الإختيار على من له إلمام بالعلوم السياسية أو العلاقات الدولية أو القانونية أو الإقتصادية أو خبراء الإستراتيجيات …

و لكن قد يتفوق إختيار خبراء الإستراتيجيات لتمتعهم بمميزات للمنتجات و مخرجات الأفق الواسع المهم جدا لنهضة السودان المتكاملة …

و لكن قد تظل المشكلة المصاحبة لذلك الإختيار كما يقول الفرنجة (المعرفة التي لا تنفذ تصير مجرد معلومات)…

“Knowledge that is not applied is just a mere information.”

و مع ذلك الإختيار قد يكون من الواضح أن ما قد ينقصنا هو وجود أو اختيار قادة مهنيين تنفيذيين و ميدانيين لما هو مخطط من إستراتيجيات قومية … أى وضع الشخص المناسب للمكان المناسب …

لعل عمل الإدارة الحديث يصف أن توفقنا في إختيار هؤلاء الأشخاص من القادة التنفيذيين الميدانيين بقادة التحول (Transformational leaders )…

و ربما يكون البحث عن أمثال هؤلاء القادة ثروة قومية و مفيد جدا في قيادة الوزارات خصوصا في المرحلة الإنتقالية …

أما القادة التحويليين (Transactional leaders) فهذه ميزة أقرب إلى السلوكيات الإدارية المكتسبة لما يعرف بديدن الإدارة التشاركية أو التشاورية (Participative leadership style) حيث تفيد ضرورة إكثار التشاور و المشاركة مع الخبراء و العلماء و المراكز البحثية المختصة و كذلك مع منسوبي الإدارة الداخلية في المؤسسة أو الوزارة المعنية ،، و كذلك مع أصحاب المصلحة من الجمهور المستفيد … كل ذلك من أجل ضمان توضيح المكتسبات و تحقيق الأهداف بسلاسة إدارية … و هذا قد يكون تأسيس لتغيير منهج إدارة حكم الدولة من واقع فرض و إسترجال القرارت الفوقية إلى واقع التشاركية أو التشاورية في القرارات … فالكثير من مشاريع التنمية الإقتصادية المستقبلية قد تحتاج إلى ذلك المنهج مثل ميناء أبوعمامة و غيره …

بالطبع لو تم اختيار رئيس للوزراء من فئة الخبراء الإستراتيجيين يحتاج فعلا إلى أمثال هؤلاء القادة التنفيذية الميدانيين لتنفيذ الأفكار و الخطط الإستراتيجية و ترجمتها إلى أمر واقع و لقيادة المرحلة الإنتقالية التأسيسية …

و لعل ذلك الاختيار قد يكون وارداً عبر الإستعانة بعلماء و بخبراء الموارد البشرية لإيجاد أمثال هؤلاء التنفيذيين …

و هكذا فعل د. مهاتير و أردوغان و حتى إستالين …

إذاً التحدي الأكبر هو النجاح في ترجمة الخطط الإستراتيجية إلى واقع ملموس ،،، و إلا صار مجرد تنظير أو معلومات أو أمنيات عذبة …

لعل من المحاسن أن الفترة الإنتقالية القادمة تم اعتبارها من الكثير من القادة السياسيين الوطنيين و كذلك القادة العسكر بأنها فترة “التأسيس” أو فترة تأسيسية،، فعلينا أن نجعلها كذلك بالمزاوجة و التعاون بين السلطة العلمية و السلطة السياسية …

الكثيرون نادوا الآن بحكومة تكنوقراط وطنية مستقلة فمن الأفضل أن يكونوا ممن يحملون مواصفات القيادة التبادلية في المعرفة و التحويلية في الوزارات ،،، أن أردنا خيرا للشعب السوداني…

و هذا يعني ببساطة أن على جميع النخب السياسية التخلي و التنازل او صرف النظر نهائياً عن فكرة حكومة مجاملات و محاصصات حزبية لا تصلح لهذه الفترة الإنتقالية التأسيسية … بإختصار لأن الوزارت لا تصلح لتكون كالغنائم …

و إن كان لابد من المشاركة السياسسة للنخب و ممثلي الاحزاب أو الحركات فيمكنهم ذلك عبر قيام مجالس تشريعية مبسطة و إن إختلفت أنواعها أو درجاتها مثل مجلس أعلى و آخر أدنى أو مجلس تاسيسي رئاسي أو مجلس إنتقالي أو غيرهم …

و لعل ذلك كان أصل فكرة الوثيقة الدستورية 2019م التي نصت على قيام حكومة تنفيذية من خبراء مستقلين مع قيام مجلس تشريعي إنتقالي لإستيعاب النخب و منسوبي الأحزاب السياسية … بالتأكيد بدواعي حب الذات و الأنانية في السيطرة على الحكومة التنفيذية و الإستعجال في الاستوزار السهل دون أى شرعية إنتخابية مستحقة لذلك لم يعجبهم الإتفاق الموقع عليه بواسطة منسوبي تحالف قحت حيث منحوا 200 مقعد و لم يقم حتى المجلس نفسه …

هذا ربما كان حلاً مميزاً و أمثل و إبداعي من مجموعة الوسطاء و الخبراء الدوليين حيث لم يشهد تاريخ السودان السياسي الحديث قيام مجلس تشريعي في أي فترة إنتقالية سابقة …

و لعل من التحديات الماثلة لمتخذي القرار من القادة العسكر هو كيفية جعل السلطة تنفيذية ماكينة إضافية و ليس ترلة تابعة … و ينبع من ذلك هو كيفية تحديد الأولويات الآنية و المستقبلية …

فلو شبهنا رئيس السلطة التنفيذية بالمايسترو قائد الأوركسترا الذي مناط به إختيار كافة عازفيه المهرة ،،، فيبقي التحدي هو إختيار القادة العسكر للألحان التي يرغب فيها جمهور الشعب السوداني …

فإذا كانت أولية الإختيار لألحان إنهاء حرب التمرد و إستتباب الأمن فمن باب أولى أن يكون المايسترو من مخضرمي القوات النظامية الإستراتيجيين و المدركين لإقتصاديات الحرب و تبعاتها و ربما لنا بتشرشل آخر …

أما إذا كانت الأولوية لإعادة الأعمار لما دمرته الحرب و الإهتمام المتزايد بمعاش الناس فلنا سماع لحن الخبراء الإقتصاديين من التكنوقراط و البيروقراط من منسوبي الداخل او الخارج ،،،

أما اذا كنا ترغب في إصلاح العلاقات الدولية و إتباع سياسة التحالفات الدولية للمساعدة في الإسراع لإنهاء حرب التمرد فلنا بالخبراء من مخضرمي وزارة الخارجية و المنظمات الدولية المشابة في المهام …

المهم ربنا يوفق القادة في إختيار المايسترو المناسب و عليه واجب إختيار العازفين المهرة من أصحاب الكريزما و المواصفات المطلوبة للنجاح في مهامهم حتي نسمع الشعب السوداني الألحان العذبة الشجية فقد سمع ما يزيد عن حاجته من ضجيج الدانات و أصوات الرصاص …

والله المعين و المستعان ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى