ثقافية

حول كتاب المؤثرات الصوتية والموسيقية فى دراما الإذاعة السودانية 1947_1987

الأستاذ السر السيد 

 

تستوقفك منذ الوهلة الأولى وأنت تقرأ / تقرأين كتاب ( المؤثرات الصوتية والموسيقية فى دراما الإذاعة السودانية 1947 _1987 )، جِدة الكتاب وريادته فهو الدراسة الأولى “المنشورة” فى مجال المؤثرات الصوتية والموسيقية فى السودان والدراسة الثالثة “المنشورة” فى مجال دراما راديو أم درمان، فقد كانت الأولى (فن الرؤية عبر الأذن ) لبروفسير صلاح الدين الفاضل والذى حوى إشارات عامة حول نشأت دراما راديو أم درمان وأهم رموزها، والثانية ( دراما الراديو فى السودان) لبروفسير اليسع حسن أحمد وهى رسالته التى نال بها درجة الدكتوراة من كلية الموسيقى والدراما جامعة السودان فى العام 2004، وقد كانت بعنوان ” البناء الدرامى فى الإذاعة والتحولات الاجتماعية فى السودان”. وقد حوى ومن ضمن مباحث كثيرة رصداً لمسيرة دراما راديو أم درمان وسجلاً للأعمال الدرامية التى أُنتجت وأسماء المخرجين والكتاب وغير ذلك مما له صلة بدراما الراديو.

 

ما يلفت أيضاً فى هذا الكتاب غزارة معلوماته وشموليتها والتى بثها المؤلف عبر أسلوب سلسل يقوم على إيقاع مثير كإيقاع دراما الراديو موضوع الكتاب.. الكتاب هو الكتاب الثاني في مسيرة المؤلف فقد سبق له وفى ذات الحقل أن نشر كتابه “السمعانية…لغة دراما الراديو”.

 

صدر الكتاب عن مركز عايدابى لفنون المسرح فى العام 2022 ويقع فى حوالى ال 89 صفحة من القطع المتوسط شاملة الإهداء والمقدمة وفصول الكتاب والخاتمة..جاء فى الاهداء:

أهدي هذا الجهد إلى أساتذتي:

بروفسير عثمان جمال الدين

والدكتور عز الدين هلالي

والمخرج الإذاعي محمود يسين، إذ تعلمت على أيديهم جماليات فنون المسرح والإذاعة إذ عاشوها حباً وعشقاً والتزاما نحو المشاهد والمستمع.. أسأل الله أن يتغمدهم بواسع رحمته ومغفرته.

 

*عن المؤلف:*

تخرج الدكتور طارق البحر من المعهد العالي للموسيقى والمسرح – كلية الموسيقى والدراما “جامعة السودان حاليا” في العام 1986 في قسم التمثيل والإخراج، نال درجة الماجستير فى “الدراما الإذاعية” فى العام 2010 والدكتوراة فى “فلسفة الدراما” من جامعة السودان فى العام 2016.. يُعد البحر واحداً من الأسماء المهمة في مجال الإعلام ومجال الدراما والمسرح، ففي مجال الإعلام شغل عدة مناصب قيادية فى الإذاعة القومية، لعل أهمها إدارته لإذاعة “أم درمان إف إم ١٠٠” وإدراته للدراما بالإذاعة القومية، أما فى مجال المسرح والدراما فقد سبق له أن عمل مديراً للمسرح القومي السوداني، كما أخرج وشارك بالتمثيل فى عدد من المسرحيات والمسلسلات الإذاعية والتمثيليات، فهو إذن وبلا مواربة فى كتابه هذا يمثل الشاهد الذى ( شاف ) أي حاجة.

2

أستطيع القول أن المقولة المركزية فى هذا الكتاب تكمن فى محاولته الجادة لرد الاعتبار ل(فن دراما الراديو) خاصة وأن أكثرية الدراسات فى هذا المجال تهتم أكثر بما يمكن أن نسميه ب”أدب دراما الراديو”..أي البحث في الرسائل التى تعبر عنها دراما الراديو وعلاقتها بالمجتمع، دون كثير اهتمام بالكيفية التى تقال بها هذه الرسائل، وقد يعود هذا إلى أن غالبية هذه الدراسات تأتي من مختصين فى الإعلام والاجتماع أكثر ما يعنيهم البحث فى محتوى الرسائل والمستهدفين بها ومواقيت بثها ونسبها فى الخارطة البرامجية، دون كبير انشغال بالحقل الذى ينتمي له “ماعون الرسالة” والذي هنا هو “دراما الراديو” وما يتصل بها من بناء يحدد هويتها والذى هنا هو “فن دراما الراديو”، بما أنه فن له قوانينه العامة التى تحكمه والتى تجعله مختلفاً هنا وهناك عن فنون الدراما فى مجالات أخرى كالمسرح والتلفزيون والسينما..

نعنى بفن دراما الراديو، والذى سعى الكتاب الذى بين أيدينا جاهداً لرد الاعتبار له، ذلك البناء الذى تقوم عليه (علاقات المسمع) بحسبانه أصغر وحدة فى دراما الراديو وهى علاقات كما هو معلوم تنهض فى المقام الأول على الصوت والذى يتشكل في دراما الراديو كما جاء فى الكتاب من المؤثرات الموسيقية والمؤثرات الصوتية والصوت البشرى “صوت الممثلين”، ليكون فن دراما الراديو هو الاشتغال في هذه العلاقات “علاقات الصوت” وهو اشتغال بالضرورة يشمل نوعية الاستديو، فالدراما تحتاج لاستديو بمواصفات خاصة، ويشمل كذلك طرائق توزيع الممثلين والميكرفونات و الدقة فى اختيار أصوات الممثلين وتصميم المؤثر الموسيقي واختيار المؤثر الصوتي والمؤثر الموسيقي المناسبين ووضعهما في الموضع المناسب لهما وفق منطق المسمع من حيث المحتوى والزمن، وبالطبع لن يتم هذا الاشتغال دون دراية ومعرفة بإمكانيات الوسيط التقني الذى يتم عبره التسجيل والمونتاج، ونعني هنا الإمكانات التقنية التى تتيح لنا التمكن من إدارة الأصوات من حيث التكرار /المزج /التدرج فى الصوت علواً أو انخفاضاً / الصدى /الهمس / الجهر / الخ.

 

3

تَعرَّض الكتاب لتعريف الدراما ولنشأتها وتطورها ولطبيعة دراما الراديو ولملابسات نشأتها فى راديو هنا أم درمان ولروادها ولنشأة وتطور هياكلها الإدارية، وقدم إشارات مهمة فيما أنتجه راديو أم درمان فى التمثيليات والمسلسلات والسلسلات والأفلام الإذاعية، ولأن الكتاب مكرس بالأساس للبحث فى المؤثرات الموسيقية والمؤثرات الصوتية “فن دراما الراديو” فى راديو هنا أم درمان، فقد كرس جل صفحاته لهذا المبحث – من ص19 إلى ص 85 – متعرضاً لماهية المؤثر الصوتي و لماهية المؤثر الموسيقي والفرق بينهما، ولأنواع المؤثرات الصوتية، ولتوظيف المؤثر الموسيقي والمؤثر الصوتي ولبدايات استخدامه فى دراما هنا أم درمان، ولمصادره ثم لرحلة المؤثر الموسيقي بدءاً من استخدام الموسيقى الجاهزة والتي كانت غربية فى الغالب إلى التأليف السوداني باستقطاب موسيقيين سودانيين.

تعرض الكتاب أيضاً إلى علاقة المؤثر الصوتى والمؤثر الموسيقى ببيئة العمل الدرامي وفي ذات السياق وبالكثير من الجهد والتقصي رصد أنواع الآلات الموسيقية التى استخدمت فى المؤثرات الموسيقية منتخباً نماذجاً من الأعمال الدرامية كمسلسل “الأرض الحمراء” الذى استخدمت فيه الربابة ومسلسل “للقمر وجهان” الذى استخدمت فيه آلات البيانو والتشيلو والكنترباص..أيضاً توقف الكتاب على سبيل المثال لا الحصر عند مسلسلات وتمثيليات يرى فيها تميزاُ فى استخدام المؤثر الصوتي والمؤثر الموسيقي كمسلسلات “درب العشم” و “الحياة مهنتي” و “الدهباية” و”الحراز والمطر” و تمثيلية ” التقرير الأخير”… أشار الكتاب فى ثناياه إلى أن المؤثر الموسيقي فى دراما راديو أم دمان استخدم الآلات الشعبية كما استخدم الآلات الحديثة، وفي الموسيقيين ذكر الموسيقار محمد آدم المنصوري فى مسلسل الحياة مهنتي والفنان النعام آدم في مسلسل الأرض الحمراء والموسيقار الفاتح الطاهر في مسلسل للقمر وجهان، و ذكر غيرهم بالطبع، كما أشار لتجارب بعض المخرجين في صناعة المؤثر الصوتي الطبيعي.

من فصول الكتاب واضحة الجهد وهو يتتبع رحلة المؤثر الصوتي والمؤثر الموسيقي فى هنا أم درمان توقفه عند بعض المخرجين الذين يرى انهم شكلوا إضافة نوعية في مسيرة دراما راديو أم درمان وأسلوب كل منهم فى توظيف المؤثر الصوتي والمؤثر الموسيقى وهم المخرج أحمد عاطف 1938_2006 والمخرج عثمان على حسن اللورد 1910_1975 والمخرج محمد طاهر 1937_2022 والمخرج أحمد قباني 1938_1994 والمخرج محمود يسين 1944_2013 والمخرج صلاح الدين الفاضل، فقد ناقش الكتاب و عبر نماذج من أعمالهم أسلوب كلا منهم فى استخدام الموثر الصوتي والموثر الموسيقي.

 

أطربنى الكتاب جداً وهو يحاول أن يقيم مقارنة أو مقاربة بين المخرجين الكبيرين صلاح الدين الفاضل ومحمود يسين من خلال عملين قصيرين هما، تمثيلية (التقرير الاخير) لصلاح الدين الفاضل وتمثيلية (السراب) لمحمود يسين، ومن خلال عملين طويلين هما، (مسلسل الدهباية) لمحمود يسين ومسلسل (الحراز والمطر) لصلاح الدين الفاضل، في محاولة للكشف عن طرائق أي منهما فى استخدام المؤثر الصوتى والمؤثر الموسيقى.

 

أى الكشف عن الكيفية التي يبني بها كل منهما (المسمع الدرامي) من حيث المكان والزمان عبر علاقات الصوت.. عبر فن دراما الراديو…يتأتى الطرب فى هذه المقاربة من احتشادها بالتفاصيل التي تنم عن شغف ومعرفة عميقة بالمخرجين وأساليبهما في الإخراج وربما وبشكل أكبر المخرج محمود يسين. لم أكن ناسياً أو غافلاً عن مَن كتب مقدمة الكتاب ولكن وكما قال الكتاب نفسه لابد من وضع المؤثر الصوتي أو الموسيقي فى مكانه تماماً و لأن هذا الجزء من العرض كما ترون كرس للموسيقى بأصواتها المتنوعة، وجدت من المناسب أن أقول وفي هذا الحيز: إن مَن كتب مقدمة الكتاب هو الموسيقار الدكتور كمال يوسف.

 

فرضيات:

ثمة ثلاثة فرضيات فى ثنايا الكتاب أحب أن أتوقف عندها لفتاً للانتباه لا أكثر، فهي في النهاية فرضيات تأخذ قيمتها مما قد تثيره من حوار حولها.

 

الأولى:

زعم الكتاب أن الفترة الممتدة من 1970 إلى 1980 تمثل العصر الذهبى لدراما راديو أم درمان ودلل على ذلك بأن هذه الفترة شهدت استقراراً سياسياً كبيراً وأن فيها ازداد نشاط المخرجين النوعيين كأحمد قباني وصلاح الدين الفاضل ومحمود يسين وغيرهم، و بدأ فيها المعهد العالي للموسيقى والمسرح يرفد الإذاعة بخريجيه كما أن وتيرة النشاط الثقافي والمهرجانات الثقافية ازدهرت فى هذه الفترة.

 

الثانية:

فى مقاربته أو مقارنته بين المخرجين صلاح الدين الفاضل ومحمود يسين زعم أن الاختلاف الأساس بينهما مرده إلى خلفيتيهما الجمالية فهو يرى أن المخرج صلاح الدين الفاضل مدين فى فكره الجمالي لفن المسرح بينما المخرج محمود يسين مدين فى فكره الجمالي لفن السينما ليصل إلى أن (العرض الإذاعي) ل”الفاضل” تتلبسه روح المسرح بينما (العرض الاذاعى) ل”يسين” تتلبسه روح السينما وهو ما انعكس بطريقة أو بأخرى فى استخدام كل منهما للمؤثر الموسيقي وللمؤثر الصوتي.

 

الثالثة:

ذكر المؤلف أنه لاحظ أن استخدام المخرجين للآلات الموسيقية التقليدية ينحصر فى الآلات المستخدمة في شمال ووسط السودان كالطمبور والدلوكة والزمبارة وعزى هذا إلى أن غالبية كتاب ومخرجي الدراما من شمال ووسط السودان منبهاً من ثم إلى ضرورة مراعاة التنوع الثقافي فى السودان وشاكياً من غياب التخطيط الثقافى.

 

هذه الفرضيات الثلاث على أهميتها قد تجد مَن يختلف معها أو على الأقل يستدرك عليها، وبالطبع قد تجد مَن يوافق عليها.

 

إشارات:

*/ نهض الكتاب وبشكل كبير فى مراجعه على إفادات شفاهية من شهود عيان، مخرجين وإداريين وصحفيين وقيمة هذا أنه وثق ما قد يكون عرضة للضياع فى حقل قل فيه التأليف كما أشرنا.

 

*/ الاستشهاد بأعمال درامية يعود تاريخ إنتاجها وبثها إلى خمسينيات القرن الماضي يلزمنا أولاً أن نشيد بالإذاعة القومية فى حفظها لهذا الإرث وثانياُ أن نشيد بالكتاب الذي استنفر هذا الإرث وجعله يمشي بين الناس وثالثا أن نلفت الإنتباه إلى أن هذا الإرث ومنذ زمن بات مهدداً بالتلف والضياع والنهب و مع الحرب اللعينة هذه والإذاعة محتلة من الدعم السريع سيزداد الأمر سوءا…

إذاً إرفعوا أصواتكم أن حافظوا على هذا الإرث التليد.

 

*/ فى الكتاب إشارات نقدية ذات طابع تقييمي للطريقة التي وظف بها بعض المخرجين المؤثر الصوتي والمؤثر الموسيقي.. من جانبي لم أجد حماسة لهذه الاشارات خاصة وأنها تعمل على تقييم توظيف واستخدام لمؤثر تم فى خمسينيات وستينيات وثمانينيات القرن الماضى بأدوات وخبرات اليوم.

 

هذا كتاب جميل الاسلوب .. غنى بالمعلومات.. جديد فى محتواه.

 

ملحوظة:

على حسب معلوماتى المتواضعة، مسلسل الحيطة المايلة من إخراج محمد طاهر وليس صلاح الدين الفاضل و مسلسل “ساري الليل” انتج وبث فى العام 1959 وليس فى العام 1970 كما جاء فى الكتاب.

 

شكراً دكتور طارق البحر

شكرا مركز عايدابى لفنون المسرح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى