رأي

ذريعة التدخل الدولي الإنساني والهيمنة على الدول: أكذوبة الإغاثة الإنسانية (1-3)

دكتور أحمد عبد الباقي

توسع الفكر الليبرالي بعد نهاية الحرب الباردة؛ مما مهد الطريق إلى بروز العديد من المفاهيم التي تساهم في إعادة صياغة العلاقات الدولية بما يتناسب ومصالح الفكر الليبرالي، تبلورت تلك المفاهيم على مستويين: مستوى يتمثل في إعادة صياغة المفاهيم -التي سادت في أثناء مرحلة الحرب الباردة- مثل: السيادة الوطنية، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، منع استخدام القوة في النزاعات الدولية…الخ، ومستوى آخر يمثله إشاعة مفاهيم جديدة تعبر في حقيقتها عن رؤية الفكر الليبرالي للعلاقات الدولية، ومن بين هذه المفاهيم برز مفهوما: مبدأ التدخل الدولي الإنساني تحت ذريعة حماية حقوق الإنسان، والإغاثة الإنسانية، والهدف منهما في الأصل خدمة المصالح القومية للدول التي تتولى الفكر الليبرالي رغم تدثرها برداء الإنسانية.

تتناول هذه المشاركة في ثلاث حلقات مفهوم التدخل الدولي الإنساني بالتركيز على الإغاثة الإنسانية وتأثير مفهوم ذلك التدخل علي سيادة الدول ونماذج منه مع التركيز السودان.

التدخل الإنساني الدولي

تأثرت العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة بتوجهات الفكر الليبرالي بقيادة أمريكا والدول الغربية خاصة في ظل ظهور فواعل جديدة على مسرح العلاقات الدولية مثل الحرب المزعومة على الإرهاب، استشراء المخدرات، تنامي الهجرة غير الشرعية وتهريب البشر والجريمة العابرة للحدود والتغيرات المناخية وازدياد حدة الصراعات الداخلية والحروب الأهلية خاصة في إفريقيا وظهور دور عالمي للمليشيات مثل الحشد الشعبي في العراق وقوات الدعم السريع في السودان ومليشيا الحوثي في اليمن، ووقوع جرائم التطهير العرقي في رواندا ودول البلقان، أثرت هذه الفواعل على المدنيين: فاستحر القتل بالتطهير العرقي، وظهرت المجاعات وزادت حركة النزوح الداخلي واللجوء إلى الخارج لذلك تعالت الأصوات في الساحة الدولية على إثر معاناة المدنيين، ونادت بضرورة انتهاج نهج إنساني جماعي للوقوف مع الضحايا في محنتهم وتخفيف ويلاتهم، فكان ما عُرف بالتدخل الدولي الإنساني والإغاثة الإنسانية، فما هو التدخل الدولي الإنساني وما هو مفهوم الإغاثة الإنسانية؟

التدخل الدولي الإنساني هو أحد أشكال التدخل الدولي الذي تنفذه دولة معينة أو مجموعة دول أو هيئات أو منظمات دولية أو إقليمية لأهداف إنسانية، ويهتم بالحالات التي يتم فيها تبرير التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ما لأسباب إنسانية (كما يُدعي)، تتعلق هذه الأسباب إما بحماية أقلية معينة من الإبادة أو الحيف الذي تتعرض له أو نتيجة لحصول كوارث طبيعية أو حدوث مجاعة؛ بسبب صراعات مسلحة دولية أو غير دولية الخ… و وتعني الإغاثة الإنسانية -حسب تعريف فقهاء القانون الدولي- الخدمات الصحية والطبية أو المواد الغذائية والمياه أو الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الـدول أو المنظمـات الإنسانية الدولية الحكومية أو غير الحكومية (وغالبا بدعم من الدول ذات اليسار المالي)، لضحايا النزاعات الدولية أو غير الدولية أو الكوارث الطبيعية.

تجدر الإشارة إلى أنه في حالة الاضطلاع بمهمة الإغاثة الإنسانية، فإنه يتعين على المنظمات ذات الصلة الحصول على موافقة الدولة أو أطراف النزاع، وفي هذه الحالة، فإن الدولة لا تتمتع بسلطة مطلقة في منح أو رفض القبول بعمل هذه المنظمات في أراضيها، وذلك لأن اتفاقيات جنيف لعام 1949م تنص علي هذه الاعمال، وتقر لهذه المنظمات بحق تقديم الإغاثة الإنسانية، وقد أجازت المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع للمنظمات المحايدة عرض خدماتها على أطراف النزاع، ويجب على الحكومة الشرعية منح موافقتها للمنظمات التي ترغب في التدخل لإغاثة الضحايا في الأراضي الخاضعة لسلطة الحكومة الشرعية، كما يجب أيضا على الثوار أو المناوئين للحكومة الشرعية أو المتمردين منح موافقتهم للمنظمات الإنسانية التي تريد العمل في الأراضي الخاضعة لسيطرتهم، وليس من الضروري موافقة الحكومة الشرعية، وبالرغم من ذلك فإن الإطار القانوني الدولي العام الذي يحكم عمل المنظمات الإنسانية يظل متضمنا شرط موافقة الدولة أو أطراف النزاع عند ممارستها لعملها، ويجب أن تلتزم هذه المنظمات في أداء عملها بمبادئ: الإنسانية والحياد وعدم التحيز بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 131/43 لعام 1988م.

يُلاحِظُ أنه على الرغم من أن القانون الدولي الإنساني يتيح الفرصة لعمليات الإغاثة الإنسانية بصورة متزنة، إلا أن هيمنة أمريكا والغرب على مجريات السياسية الدولية دعتهم إلى ابتداع طرائق أخرى للتدخل في شؤون الدول من خلال دعم ما عرف بالتدخل الدولي الإنساني الذي اتخذ عدة نماذج -كما جاء في بحث بعنوان”التدخل الدولي الإنساني وأثره في مبدأ سيادة الدول” لكاتبه م.د. قحطان حسين طاهر بجامعة بابل- كلية الدراسات القرآني، ونشر في مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانيةن العدد 23، جامعة بابل -شهر 2017م، والنماذج هي:

نموذج الإغاثة أو النجدة ( The Relief Model):

هو تحقيق أو تأمين الإغاثة الفورية والسريعة في حالات الكوارث أو الجرائم الإنسانية، وفي حالات المجاعة على سبيل المثال، لا بد أن يتسم التعامل عند الشروع في التدخل الإنساني من هذا النموذج بالحيطة والحذر؛ لأنه ربما يؤدي إلى عواقب وخيمة كما حدث عندما فكرت إدارة كلينتون في التدخل في الصومال في عام 1992م تحت ذريعة الإغاثة الإنسانية، فأدى التدخل إلى نتائج كارثية على أمريكا كما هو معلوم، إن فشل حكومة كلينتون في الصومال جعلها تتخلى عن الأمر، وتتخذ ما عُرف بنموذج “الامتناع”، الذي لا يُعد نموذجا واقعيا أو عمليا للتدخل الإنساني؛ لأنه يمثل نموذج المتفرج على الأزمة في حالة تصاعد أعمال الإجرام والعنف ضد المدنيين بدرجة كبيرة قد تؤدي إلى كارثة إنسانية، فلا المجتمع الدولي ولا النظام الدولي ولا القوى الكبرى تملك أي غطاء قانوني للتدخل في هذه الحالات، كما حدث في رواندا 1994م، عندما اتخذت الأمم المتحدة حيال أزمة رواند في بدايتها نموذج “الامتناع” للتدخل، جسد موقف الأمم المتحدة هذا فشلا ذريعا لها، وعُولجت الأزمة لاحقا بعد أن تدخلت فرنسا والدول الفرانكفورتية، واستصدرت تفويضا من مجلس الأمن للتعاطي مع أزمة رواندا علي نحو حقق الاستقرار لتلك الدولة.

نموذج الإغاثة القصوى

(The Relief Plus Model):

يستخدم هذا النموذج في حالة معارضة الدولة أو عدم قبولها للمساعدات والنجدة من الأطراف الخارجية، وفي هذه الحالة تعمل القوى الخارجية على ترميم هذا الحكم أو الإطاحة به، وتنصب أصدقاءها على رأس السلطة، ومثل علي النموذج هو تدخل الولايات المتحدة الأمريكية لتغيير نظام الحكم في هاييتي 1994م، يعد نموذج النجدة القصوى شكلاً تقليديا للتدخل، ويعتقد البعض بأنه عملي؛ لأنه يمنع تزايد اضطهاد الجماعات الإنسانية، في حين يرى البعض بأنه تكريس لنفوذ القوى المتدخلة وخاصة الدول التي لها أطماع توسعية، كما أن هذا التدخل لا يُؤمن استقرار الأوضاع الداخلية للدولة المُتَدَخِّلُ فيها، وغالبا ما ينظر إليه على أنه غزو أجنبي؛ مما يثير المشاعر الوطنية وبالتالي مقاومته، وربما حدوث المزيد من عدم الاستقرار.

نموذج إعادة البناء أو الإعمار

 (The Reconstruction Model)

ربما يبدو أن هذا النموذج هو الأكثر تفاؤلا وطموحا في التدخل الإنساني، لأنه يهدف إلى التنظيم الكلي والتام للنظام السياسي للدولة المتدخل فيها، ويقع هذا نتاجا للتخطيط الطويل، لكل من أنصار الاتجاه الليبرالي والديمقراطي، والذي يهدف -كما يدعي أصحابه-إلى خلق نظم ديمقراطية في البلدان المتدخل فيها؛ ومن ثم تصبح مُؤمنة بهذه القيم وألا تتعدى على حقوق الإنسان، هذا النموذج يمكن أن يكون مناسبا لكثير من الدول النامية التي تعاني مشاكل بنيوية في نظامها السياسي، ولكنه قطعا لن يأتي خاليا من الشروط ومراعاة مصالح الدول الكبرى، ويمكن التعايش معه إذا نجحت الدول النامية في المؤامة بين مصالحها القومية ومصالح الدول الكبرى وذلك أخف الأضرار.

نواصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى