تقارير

رئيس وزراء السودان الجديد … تحديات وفرص

رمضان أحمد

لا شك أن الدكتور كامل إدريس، رئيس وزراء السودان المعين، سيتسلم مهمة صعبة. والصعوبة ليست في المهمة ذاتها – فلربما هو مؤهل لها أكثر من غيره – ولكن الصعوبة في ظروف الحرب التي تمر بها البلاد، واقتصاد محروم من الموارد إلا قليلاً، وقوى سياسية متشرزمة جففت الساحة السياسية من السياسة لتسود العسكرة.
ولكن في ظل هذه العتمة هناك فرص كبيرة للسيد إدريس إذا استغلها سيتخلص من كل هذه التحديات ويحولها إلى فرص. غير أنه لو نجح في تخطي هذه التحديات واستفاد من الفرص فإنه سينال شرف وضع لبنات بناء الدولة السودانية التي لم تبن أصلاً منذ الاستقلال. وهذا ما سنبحثه في هذا المقال بشيء من التفصيل.

أولاً التحديات:
المؤسسة العسكرية:
المؤسسة العسكرية ظلت هي المؤسسة الوحيدة الأكثر تماسكاً في الدولة السودانية عندما انهار كل شيء في الدولة في بداية الحرب. وبفضل الله أولاً وبفضل المساندة الشعبية استطاعت المؤسسة العسكرية أن تحرز انتصارات واسعة على الدعم السريع واستولت على ترسانة كبيرة من الأسلحة. وإذا استمر الجيش وحلفاؤه على الوتيرة الحالية من التقدم في كل جبهات القتال فإن الدعم السريع سينهار تماماً وبأسرع مما كان متوقعاً.

فالسؤال هو: أين سيكون موقع المؤسسة العسكرية وحلفاؤها؟ بالنسبة لكتائب البراء هؤلاء عبارة عن شباب تركوا وظائفهم وانخرطوا في القتال فالعديد منهم سيعود إلى وظائفهم داخل البلاد وخارجها وليس وارداً أن يطالبوا بشيء من السلطة ولم يكن هذا شرطاً. وأما قوات الحركات المسلحة فيتوقع أن تندمج في الجيش إن لم تكن اندمجت بالفعل وأخذت أرقاماً عسكرية حسب إفادات قادتهم. وأما قادة الحركات المسلحة فبموجب اتفاقية جوبا يلزم أن تكون لهم حقائب وزارية. فهل المواصفات التي يختار بها وزراء الحركات المسلحة تتوافق مع معايير رئيس الوزراء الجديد؟
وهنا يبرز سؤال مهم جداً: هل ستكون صلاحيات رئيس الوزراء بعيدة تماماً عن تدخلات مجلس السيادة؟
القوى السياسية:
أبرز القوى السياسية التي سيقابلها رئيس الوزراء الجديد وجهاً لوجه من حيث قدرتها على الحشد والتنظيم والتأثير هم الإسلاميون بكل كياناتهم التي بدأت تتناسل منذ أيام المفاصلة في ديسمبر 1999. فهل يمكن للإسلاميين أن يشكلوا عقبة لرئيس الوزراء الجديد؟ باستثناء الدوائر النفعية الضيقة التي قد يشكل تعيين رئيس وزراء جديد تهديداً لمصالحها فإن الإسلاميين بكل تنظيماتهم رحبوا بتعيين الدكتور كامل إدريس. هذا الترحيب ليس بالضرورة حباً في شخص كامل إدريس ولكن أن يكون على السلطة شخص مستقل ليس له عقدة تجاه الإسلاميين سيتيح للإسلاميين فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم وإجراء مراجعات حقيقية استعداداً للترتيبات القادمة. ونظراً لأن مستوى الفتق في صفوف الإسلاميين يستعصي على الرتق يفضل طيف واسع منهم الابتعاد عن السلطة في الوقت الراهن، ليس لأن البيئة الإقليمية رافضة للإسلاميين فحسب وإنما المراجعات المطلوبة تتطلب أن يكونوا خارج السلطة. فالمؤتمر الوطني الذي كان أكثر القوى السياسة تماسكاً تعرض لانشقاق إلى فصيلين: أحدهما بقيادة الدكتور إبراهيم محمود والآخر بقيادة مولانا أحمد هارون ومن قبل انشق المؤتمر الشعبي، وقد سبقتهما مجموعات مثل منبر السلام العادل ومجموعة غازي صلاح والسائحون وأصحاب الرصيف. تجدر الإشارة إلى أن الخلاف بين هؤلاء جميعاً ليس خلافاً فكرياً بقدر ما هو خلاف حول الأشخاص وأساليب الإدارة. أو ربما هو صراع بين الأجيال، جيل “الإخوان المسلمون” وجيل الإسلاميين الجدد الذين يمثلون تيار الصحوة الإسلامية وهو تيار جامع للإخوان، والسلفيين، والصوفية، وغيرهم. فلعل العامل المؤدي إلى وحدة الكلمة في المرحلة القدمة هو الفكرة والأهداف والبرامج والمشاريع وليس الأشخاص. كما أن البعد الوطني وبناء دولة المؤسسات والقانون يشكل هدفاً استراتيجياً للإسلاميين الجدد، بعيداً عن الشعارات الأيديولوجية والكلام عن الشريعة الإسلامية لأن هذا أصبح معلوماً من الدين بالضرورة.
وعلى هذا الأساس فإن الإسلاميين لن يشكلوا تحدياً لرئيس الوزراء الجديد، وبنفس القدر لن يكونوا جزءاً من الجهاز التنفيذي بصورة رسمية لأن كل من يتحمل أعباء الجهاز التنفيذي في هذه المرحلة سيكون خصماً على رصيده المستقبلي كما حصل للقوى التي تصدرت مشهد العمل التنفيذي في بداية المرحلة الانتقالية.
الكتلة الديمقراطية – التي تضم الحركات المسلحة وبعض القوى السياسية – تعتبر نفسها الوجه الآخر لـ”قحت” وعينها على الجهاز التنفيذي لم ترمش أبداً، بجانب شخصيات كثيرة سياسية وقبلية، جزء منهم كانت حركات مسلحة وقعت اتفاقيات سلام مع حكومة الإنقاذ لكنها فقدت كل ميزاتها مع سقوط حكومة الإنقاذ.

العديد من شخصيات الكتلة الديمقراطية وجيوش من المحترفين السياسيين الذين يأكلون في كل الموائد تتوقع أن تشغل وزارات في المرحلة الانتقالية المقبلة، ربما مكافأة لها على وقفتها مع القوات المسلحة. فهل سيرضخ لهم رئيس الوزراء الجديد؟

هناك قوى سياسية يرى العديد من السودانيين أنها الجناح السياسي للدعم السريع. هذه القوى لن تشكل تهديداً يذكر لرئيس الوزراء الجديد بالنظر إلى التشرزم الذي تعرضت له: من قوى إعلان الحرية والتغيير “قحت” إلى “تقدم” إلى “صمود” وما زالت تتشظى، فإن هناك سيناريوهان: أنها ستحاول مغازلة رئيس الوزراء الجديد، خاصة بعد دحر التمرد، أن الجهات الداعمة للتمرد قد تستغلها لزعزعة حكومة كامل إدريس. هذه القوى تعتمد أصلاً على الدعم الخارجي وتقتات على فكرة أن النظام في السودان هو انقلاب عسكري مدعوم من أنصار النظام السابق. إذا حظي رئيس الوزراء الجديد بصلاحيات تنفيذية واسعة فإنه سيسحب البساط من تحت “قحت” وينسف كل الحجج التي تتحجج بها في خطابها الموجه للخارج. قد لا يكون الوقت مناسباً لعودة قحت إلى السودان في الوقت الراهن حفاظاً عليهم من الجموع الغاضبة ولكن بمرور الزمن وتحقيق الاستقرار سيتغير المزاج العام إلى مزاج تصالحي.
القوى الإقليمية: أبرز القوى الإقليمية التي ستبرز في المشهد هي السعودية ومصر – إذا استبعدنا الإمارات باعتبارها طرفاً في الحرب وكذلك قطر باعتبارها داعماً لخيارات الشعوب – فهل ستسمح السعودية ومصر بانتهاء المرحلة الانتقالية إلى انتخابات حرة وديمقراطية؟
الشعب السوداني: من أبرز التحديات التي ستواجه الدكتور كامل إدريس هو السوشيال ميديا الذي يتفاعل معها الشعب سلباً وإيجاباً. هذا يعني بالضرورة أن السيد رئيس الوزراء الجديد سيتعين عليه أن يوازن بين تطلعاته “المثالية” وفق ما يقتضيه الوضع المثالي لرئيس الوزراء في الظروف الطبيعية وبين ما يتوقعه الشارع السوداني من رئيس الوزراء في الظروف الحالية. بمعنى أن التماهي مع المزاج العام مسألة ضرورية جداً، دون التغاضي عن متطلبات بناء الدولة.
ثانياً الفرص:
هناك ثلاثة عوامل تميز الدكتور كامل إدريس عن غيره وتشكل له أرضية صلبة ينطلق منها:
الأول أنه لم يكن جزءاً من المرحلة الانتقالية السابقة وما صاحبها من استقطاب حاد سياسي وإثني وجهوي، وبالتالي هو معافى من لوثة المرحلة الانتقالية ومعافى من الالتزامات غير المعلنة التي كثيراً ما كبلت من سبقوه. فهذا يعني أنه سيبدأ من الصفر مع كل اللاعبين في المشهد. ولن يتعامل بخلفيات سلبية أو إيجابية إلا بقدر ما يتولد من المشهد.
الثاني: أنه يملك رؤية ومشروع وطني متكامل أثبت أنه لم يكن بعيداً عن هموم الوطن، وهذه سيجعله يهتم أكثر بمعاش الناس وبقضايا التنمية وهي هموم المواطن بخلاف هموم النخبة السياسية القائمة على الصراع على السلطة. ولذلك فإن أي تقدم يحرزه في هذا المجال سيزيد رصيده الشعبي وهو غاية ما يتمناه كل من يتصدر المشهد السياسي. هذا علماً بان الشعب السوداني قد مل الشيطنة والشيطنة المضادة وما يتبع ذلك تسميم المجال العام بالكراهية والبغضاء.
الثالث أن له علاقات خارجية واسعة مما سيمكنه من صياغة خطاب يفهمه الخارج والداخل على حد سواء وهذا هو ما فشل فيه كل من سبقوه بما في ذلك حكومة الإنقاذ. فحكومة الإنقاذ كانت تعاني من أزمة الشرعية لذلك كان خطابها للداخل عاطفياً وفشلت في تسويق نفس الخطاب للخارج، بينما قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت) كانت تخاطب الداخل بلغة الخارج لذلك خسرت الداخل وربحت الخارج. أما رئيس الوزراء الجديد فمطلوب منه صياغة خطاب متوازن يناسب الداخل والخارج على حد سواء. والأرضية التي يقف عليها فيها توفر له كل الشرعية التي تمكنه من صياغة خطاب متوازن يصلح للداخل والخارج على حد سواء.
لا شك أن الدكتور كامل سيظل “يجد في الكبدة عظماً” كما يقول المثل السوداني مهما كانت الأمور تسير بصورة طبيعية. فالقوى السياسية التي تطمع في الحصول على “كعكة السلطة” لن تتركه يعمل بسلام، وبنفس القدر فإن القوى الخارجية التي ترى أن السودان مجرد حديقة خلفية وتلك التي ترى السودان مجرد منتج للمواد الخام لن تتركه يشتغل بسلام. بيد أن العنصر الحاسم هو أن يجعل مشروعه الوطني ملكاً للشعب. إذا امتلك الشعب المشروع فسيدافع عنه بكل ما يملك وهذا في حد ذاته سوف يسرع من عملية تنفيذ المشروع على الأرض. فالرئيس أردوغان عندما جعل مشروعه ملكاً للشعب بما فيه المعارضة السياسية تبنى الشعب المشروع وانتزعه من كف العفريت عندما تعرض المشروع لامتحان الانقلاب عليه، لتنطلق تركيا لتأخذ مكانتها الطبيعية بين الأمم المتقدمة.
ملحوظة مهمة: إن تعيين الدكتور كامل إدريس هو أفضل قرار يتخذه البرهان منذ توليه السلطة كرئيس لمجلس السيادة حتى الآن، لسبب واحد أن رئيس الوزراء الجديد، بحكم العوامل سابقة الذكر، سيحدث نقلة في المشهد السياسي السوداني – إذا طبق محتوى رؤيته المكتوبة في كتابه “سودان 2025”- بحيث تتحول السياسة من التركيز على هموم النخبة السياسية إلى مركزية المواطن في سياسات الدولة. وبالتالي تحويل الصراع السياسي من صراع على السلطة إلى منافسة لخدمة المواطن. وبذلك يكون قد نال شرف وضع لبنات بناء الدولة السودانية.

الخاتمة
يتعين على رئيس الوزراء الجديد أن يبدأ بثلاثة أشياء مهمة: العدل والأمن والحزم. هذا يعني بالضرورة أن يبدأ بترتيب مؤسسات العدالة بكل مستوياتها لتقوم بتوفير العدل للمواطن، والثاني تأهيل الشرطة والأجهزة الأمنية للقيام بدورها في توفير الأمن للمواطن، والثالث التعامل مع المخالفات القانونية بقدر من الحزم بلا مجاملة. إذا توفرت هذه العناصر الثلاثة فإن الحياة ستعود إلى طبيعتها بوتيرة أسرع مما يتوقع. وستتحول التحديات التي أوردناها أعلاه إلى فرص يجني ثمارها الشعب السوداني. كل المطلوب من رئيس الوزراء الجديد أن يكون حازماً، وطنياً، ولا يكن ولاؤه إلا للوطن. إذا فعل ذلك فإن الشرفاء من أهل السودان وأصدقاء الشعب السوداني الحادبين على مصلحة السودان سيقفون معه بكل ما يملكون.
يتيعن على رئيس الوزراء الجديد كذلك العمل على ربط البنك المركزي بالنظام الاقتصادي العالمي بنظام “السويفت كود” أو النظام الصيني المعروف باسم نظام التحويلات المصرفية العابرة للحدود (CIPS) لتمكين التحويلات المالية عبر الانترنت إلى الحسابات المحلية ومنها إلى الخارج. هذه الخطوة ستمكن شركات المشاريع الصغيرة والمتوسطة من الأسواق الخارجية وهو ما ظل السودان محروماً منه منذ ظهور الانترنت إلى اليوم. هذه الخطوة إن تمت ستمكن السودانيين في بلاد المهجر من تحويل أموالهم إلى السودان بيسر مما يوفر العملة الصعبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى