رأي

طلس باريس وفاشودة

دكتور حسن عيسى الطالب

بعد مؤتمر القاهرة، تتولى حكومة ماكرون في فرنسا اجتماعاً آخر، لفرض الأجندة الخارجية على شعب السودان، متناسية تاريخها المسيئ في أفريقيا، وواقعها المخزي في ساحلها ووسطها وغربها، وفي كل بقعة احتلتها، فحاق بها التخلف والتمزق والدمار، بحيث أعلنت مؤخراً دول النيجر وبوركينا فاسو ومالي تشكيل إتحاد كونفدرالي، تتحصن به من سوءات استعمارها وآثاره الباقية، والذي دام زهاء الثمانين من السنين في تلكم البلدان، فأقعد شعوبها، التي تظل اليوم ضمن أفقر فقراء أفريقيا، وفق تقارير البنك الدولي.

ومن حيث المبدأ، فإن أي مؤتمر أو تجمع أو منتدى، يعقد خارج السودان، ليقرر في شأن شعبه ومستقبله، بمعزل عن إجماعهم الغالب، دون مشورة منهم ولا رضى، ويسعى للتفريق بينهم، بأية مسميات مختلقة، ومكر ظاهر أو باطن، ولأجل أن تستقوي فئة منهم، متمالئة مع متربص خارجي ماكر، وتتآمر مع آخرين لإنفاذ أجندتهم، هو خيانة عظمى للوطن، ولدماء الشهداء، والمظلومين، والمنهوبين، والمغتصبين، والنازحين، واللاجئين.

هذه خيانة وطنية لا تغتفر..
السودان للسودانيين، وليست هناك أية جهة أحرص على مصلحتهم ومستقبل بلدهم منهم، مهما تشدقت بالأبواق المأجورة والنعيق اللاهي الباهت.

لم يطلب السودانيون من الآخرين استعمارهم مرة أخرى.. فقد خبروا الاستعمار وقاوموه.. فالذين يمكرون بالسودان اليوم سيخسف بهم، عاجلا وآجلا، ولن يجدوا في السودان ولا في شعبه ولياً ولا نصيراً.
وها هم الآن يخسرون محرضيهم ومموليهم، ويخسف بهم في كل ترب وطئته أقدامهم، ويتبرأ منهم، وينبذون حتى في مواطن موالدهم، ومساقط رؤوسهم.

إيمانويل ماكرون، الذي تولى كبر التآمر على شعب السودان منذ 2019م، لم يقدم دولاراً واحداً لتنميته، ولا لرفع المعاناة عن شعبه، ولم يسع لردم حفرة واحدة في طرقه، ولا إرسال حبة دواء لتخفيف آلام مرضاه. فها هو ذا اليوم، وقد خسر البرلمان، وخسر ثقة شعبه، فنبذه الشعب الفرنسي، ولم يعد له مستقبل في فرنسا. كما سقطت حكومة ريشي سوناك في بريطانيا. وهؤلاء هما الراعيان والممولان الأساسيان.

وتاريخيا كانت بريطانيا وفرنسا هما الدولتان الاستعماريتان اللتان اقتسمتا أراضي وشعب سودان ما قبل الاستعمار، بموجب اتفاقية فشودا، التي أبرمت بين اللورد كرومر، ممثل بريطانيا لدى مصر الخديوية، والجنرال مارشان في بلدة فشودة، جنوبي السودان. وذلك بعد استشهاد القائد المجاهد رابح ود الزبير، في انجمينا، بعد أن إرتقى مدافعا عن أهله وقومه، إثر قتله الكولونيل فرانسوا لامي، قائد الجيش الفرنسي الاستعماري الغازي، والذي قدم معتدياُ بجيوشه من غرب أفريقيا لاحتلال كل أراضي السودان.

فقسم السودان بموجب تلكم الاتفاقية الاستعمارية الجائرة عام 1899، الى سودانين:-
السودان الفرنسي (تشاد)؛ والسودان الإنجليزي – الذي هو ما نحن فيه اليوم – لا بإرادة ولا رضا ولا استفتاء من شعبه. بل بقرار المستعمرين الأجانب الغزاة. وهذا ما نجم عنه التداخل الاجتماعي والإثني والقبلي بين شعبي البلدين، لا سيما من تلقاء مملكة دار وداي العباسية، التي ترتبط بشندي تاريخياً من تلقاء مؤسسيها الذين مكث فيها وعاش جدهم المؤسس، الشريف عبدالكريم بن جودة العباسي، زهاء عشر سنوات، فحكمت ذريته تلكم المنطقة، التي ظلت في ارتباط وثيق مع دارفور، وسلطنة سنار، والسلطنة العثمانية والحجاز، حتى اتفاقية صلح مع فرنسا عام 1917م بين السلطان أصيل العباسي وحكومة فرنسا.

لقد قسَّمت اتفاقية فاشودة الاستعمارية القبائل والشعوب السودانية التاريخية، وشتت الولاءات والأرحام، فقتل أشراف أهل البلاد المقاومين للإستعمار، من تلقاء مجزرة الكبكب في أبشي، وإبادة جرحى الحرب في كرري، الذين كانوا يدافعون عن وطنهم ضد غزو أجنبي آثم؛ ثم قتل الخليفة عبد الله التعايشي وحكومته، بدم بارد في أم دبيكرات، من قبل الكولونيل ريجنالد وينجيت؛ ثم مجزرة الكاملين ومقتل ود حبوبة وصحبه في سوقها؛ واستشهاد علي عبداللطيف.. وهلم جرا..

ثم ابتلينا بمحو الثقافات والقوانين ومصادرتها واستبدلها بالأجنبية الوافدة، وطمس حضارة وإرث سنار العلمي والتشريعي والثقافي، الذي ظل متوقدا لأكثر من ثلاثة قرون، فشكل الهوية الوطنية المعاصرة لأهل السودان، ومن ذلك السعي المحموم لمحو وطمس إرث سلطنة دارفور، ورشد وشجاعة الملك آدم أم دبالو في تقلي، فاستبدلت بالطمس المزري، والطلس المهين الذي نشهده اليوم..

السودانيون وحدهم هم من بيدهم الحل.. وهم من يقرون، ويقررون في شأنهم، دون إملاء ولا تدخل. فقد بذلوا دماءهم وخسروا أموالهم.. ولا يزالون.. فلم يعد هناك ما يُخوفون به..

إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى